فِي كمك؟ قَالَ: قدم علينا البارحة روح أَحْمد بن حَنْبَل فنثر عَلَيْهِ الدّرّ والياقوت فَهَذَا مِمَّا التقطت، قلت: مَا فعل يحيى بن معِين وَأحمد بن حَنْبَل قَالَ: تركتهما وَقد زارا رب الْعَالمين وَوضعت لَهما الموائد، قلت: فَلم تَأْكُل مَعَهُمَا أَنْت؟ قَالَ: قد عرف هوان الطَّعَام عَليّ وأباحني النّظر إِلَى وَجهه، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ: فِيهَا مَاتَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب أَمِير إفريقية، وَولى ابْنه أَبُو إِبْرَاهِيم أَحْمد بن مُحَمَّد.
وفيهَا: توفّي القَاضِي يحيى بن أَكْثَم بن مُحَمَّد بن قطن من ولد أَكْثَم بن صَيْفِي التَّمِيمِي حَكِيم الْعَرَب يحيى من أَصْحَاب الشَّافِعِي بَصِير بِالْأَحْكَامِ إِمَام فِي عدَّة فنون وَكَانَ دميم الْخلق، جلس الْمَأْمُون يَوْمًا وَهُوَ مغتاظ يستاك وَيَقُول: متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعَلى عهد أبي بكر وَأَنا أنهى عَنْهُمَا وَمن أَنْت يَا جعل حَتَّى تنْهى عَمَّا فعله رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ . فأوجم الْحَاضِرُونَ حَتَّى دخل يحيى بن أَكْثَم فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَرَاك متغيرا؟ فَقَالَ يحيى: هُوَ غم لما حدث من النداء بتحليل الزِّنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: الزِّنَا؟ قَالَ: نعم الْمُتْعَة زنا، قَالَ: وَمن أَيْن قلت هَذَا؟ قَالَ: من كتاب اللَّهِ وَحَدِيث رَسُول اللَّهِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو ماملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ زَوْجَة الْمُتْعَة ملك يَمِين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهِيَ الزَّوْجَة الَّتِي تَرث وتورث؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فقد صَار متجاوز هذَيْن من العادين، وَهَذَا الزُّهْرِيّ روى عَن عبد اللَّهِ وَالْحسن ابْني مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيهِمَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم قَالَ: أَمرنِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن أنادي بالنهى فِي الْمُتْعَة وتحريمها بعد أَن كَانَ أَمر بهَا.
فَقَالَ الْمَأْمُون: أمحفوظ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ؟ قَالَ: نعم رَوَاهُ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم مَالك رَضِي اللَّهِ عَنهُ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أسْتَغْفر اللَّهِ، وبادر إِلَى النداء بِتَحْرِيم الْمُتْعَة وَالنَّهْي عَنْهَا.
وَكَانَ ابْن أَكْثَم يتهم بالصبيان، وَقد قيل فِيهِ أشعار مِنْهَا:
(وَكُنَّا نرجي أَن نرى الْعدْل ظَاهرا ... فأعقبنا من بعد ذَاك قنوط)
(مَتى تصلح الدُّنْيَا وَيصْلح أَهلهَا ... وقاضي قُضَاة الْمُسلمين يلوط)
وَلأَحْمَد بن نعيم:
(أنطقني الدَّهْر بعد إخراسي ... لنائبات أطلن وسواسي)
(لَا أفلحت أمة وَحقّ لَهَا ... بطول نكس وَطول إتعاس)
(ترْضى بِيَحْيَى يكون سائسها ... وَلَيْسَ يحيى لَهَا بسواس)
(قَاض يرى الْحَد فِي الزِّنَا وَلَا ... يرى على من يلوط من باس)
(يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير وَمثل عَبَّاس)
(فَالْحَمْد لله كَيفَ قد ذهب الْعدْل ... وَقل الْوَفَاء فِي النَّاس)