بِموضع يعرف باترلاجة، فَرَأى عسكره قد أَكْثرُوا من جمع الْبَقر وَالْغنم فَأنْكر ذَلِك فَقَالَ: هَذَا يعوقنا عَن الْغَزْو فذبحت وَفرقت، فَسُمي ذَلِك الْموضع مناخ الْبَقر، وَشن غاراته فِي الأَرْض الْكَثِيرَة فأخرب مدنا ثمَّ عَاد منصورا، وَاسْتمرّ يَغْزُو إِلَى سنة اثنيتن وَسبعين وثلثمائة فاستشهد فِي قتال الفرنج فَقيل لَهُ: الشَّهِيد وولايته اثْنَتَا عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَأَيَّام، وَتَوَلَّى بعده ابْنه جَابر بِغَيْر ولَايَة من الْخَلِيفَة وَكَانَ سيء التَّدْبِير.
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وثلثمائة وصل إِلَى صقلية جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن أَمِيرا عَلَيْهَا من جِهَة الْعَزِيز خَليفَة مصر، فَاغْتَمَّ جَابر لذَلِك عَظِيما وَاسْتمرّ عَلَيْهَا جَعْفَر إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَسبعين وثلثمائة، فتولاها أَخُوهُ عبد اللَّهِ حَتَّى توفّي سنة تسع وَسبعين وثلثمائة، فتولاها ابْنه أَبُو الْفتُوح يُوسُف بن عبد اللَّهِ فَأحْسن وَاسْتمرّ.
وَمَات الْعَزِيز بِمصْر، وَتَوَلَّى الْحَاكِم واستوزر ابْن عَم يُوسُف حسن حسن بن عمار بن عَليّ.
وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمائة فلج يُوسُف الْمَذْكُور فتولاها فِي حَيَاته ابْنه جَعْفَر بسجل من الْحَاكِم لقب فِيهِ تَاج الدولة، ثمَّ ظلّ فَخَرجُوا عَن طَاعَته وحصروه فِي الْقصر، فَخرج وَالِده مفلوجا إِلَيْهِم فِي محفة ورد النَّاس وعزل جعفرا وَولى أَخَاهُ تأييد الدولة أَحْمد الأكحل بن يُوسُف فِي الْمحرم سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي الأكحل حَتَّى خرج عَلَيْهِ أهل صقلية وقتلوه فِي سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وولوا أَخَاهُ صمصام الدولة الْحسن، فَاخْتلف فِي أَيَّامه أهل الجزيرة وتغلبت الْخَوَارِج عَلَيْهِ وَجرى للفرنج مَا سَيذكرُ إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
قلت: وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عدا أَسد بِأَرْض الشَّام لم يسمع بِمثلِهِ كَانَ يفترس فِي بلد أنطاكية وَأَرْض حمص فِي لَيْلَة وَاحِدَة حَتَّى ظن النَّاس أَن الْأسد كلهَا عدت، ووثب على مباحي فَدس إصبعه فِي عين الْأسد فقلعها وَسلم مِنْهُ وَكَانَ يحدث بذلك فيكذب، فَلَمَّا قتلته الأكراد وجد أَعور، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا ملك معز الدولة الْموصل وَسَار عَنْهَا نَاصِر الدولة إِلَى نَصِيبين، ثمَّ تحرّك عَسْكَر خُرَاسَان على بِلَاد معز الدولة فَرَحل وَأعَاد إِلَى الْموصل نَاصِر الدولة.
قلت: وَلما جرى ذَلِك سَار سيف الدولة بن حمدَان إِلَى أَخِيه نَاصِر الدولة، وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الطّيب المتنبي:
(أَعلَى الممالك مَا يَبْنِي على الأسل ... والظعن عِنْد محبيهن كالقبل)
وفيهَا: ملك سيف الدولة حصن برزيه فأنشده المتنبي عِنْد نُزُوله بأنطاكية:
(وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بِأَن تسعدا والدمع أشفاه ساحمه)
وَهَذَا الْبَيْت مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه صعبان وَالله أعلم.