فَأَمنَهُمْ الطواشي محسن الصَّالِحِي ثمَّ احتيط عَلَيْهِم وأحضروا إِلَى المنصورة
وَقيد برنس إفرنسيس وَجعل فِي دَار كَانَ ينزلها كَاتب الْإِنْشَاء فَخر الدّين بن لُقْمَان، ووكل بِهِ الطواشي صبيح المعظمي، وَلما جرى ذَلِك رَحل الْملك الْمُعظم بالعساكر من الْمَنْصُور، وَنزل بفارسكور، وَنصب لَهُ بهَا برج خشب.
وفيهَا: يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلة بقيت من الْمحرم قتل الْملك الْمُعظم بن الصَّالح بن الْكَامِل بن الْعَادِل بن أَيُّوب فَإِنَّهُ أطرح جَانب أُمَرَاء أَبِيه ومماليكه، وبلغهم تهديده وَاعْتمد على من وصل مَعَه من حصن كيفا، وَكَانُوا أطرافاً فَهَجَمُوا عَلَيْهِ وَأول من ضربه ركن الدّين بيبرس الَّذِي صَار سُلْطَانا فهرب الْمُعظم إِلَى البرج الْخشب فَأَحْرقُوهُ فَطلب الْبَحْر ليركب حراقنه فحالوا بَينه وَبَينهَا بالنشاب فَطرح نَفسه فِي الْبَحْر فأدركوه واتموا قَتله نَهَار الْإِثْنَيْنِ.
فمدة ملكه لمصر شَهْرَان وَأَيَّام ثمَّ حلفوا لشَجَرَة الدّرّ زَوْجَة الصَّالح وأقاموها فِي الْملك، وخطب لَهَا وَضربت باسمها السِّكَّة، وَكَانَ نقش السِّكَّة المستعصمية الصالحية ملكة الْمُسلمين وَالِدَة الْملك الْمَنْصُور خَلِيل يعنون بخليل ابْنهَا الَّذِي مَاتَ صَغِيرا، وعلامتها على المناشير والتواقيع وَالِدَة خَلِيل، وأقيم عز الدّين أيبك الجاشنكير الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالتركماني أتابك الْعَسْكَر.
ثمَّ أَن برنس إفرنسيس تقدم إِلَى نوابه فَسَلمُوا دمياط إِلَى الْمُسلمين وأصعد إِلَيْهَا الْعلم السلطاني يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث صفر مِنْهَا، وَأطلق برنس إفرنسيس وَركب الْبَحْر بِمن سلم مَعَه فِي غَد الْجُمُعَة الْمَذْكُورَة وأقلعوا إِلَى عكا، وَفِي ذَلِك يَقُول جمال الدّين بن مطروح:
(قل للفرنسيس إِذا جِئْته ... مقَال صدق عَن قؤول نصيح)
(أتيت مصر تبتغي ملكهَا ... تحسب أَن الزمر يَا طبل ريح)
(وكل اصحابك أوردتهم ... بِحسن تدبيرك بطن الضريح)
(خَمْسُونَ ألفا لَا يرى مِنْهُم ... غير قَتِيل أَو أَسِير جريح)
(وَقل لَهُم إِن اضمروا عودة ... لأخذ ثأر أَو لقصد صَحِيح)
(دَار ابْن لُقْمَان على حَالهَا ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
قلت: وَقد تذكرت بِهَذَا الْبَيْت الْأَخير إنْسَانا هوى طواشياً لآخر فعاشر المخدوم ليصل إِلَى الْخَادِم فَقلت فِيهِ:
(يَا زيد مَا عاشرت عمرا سدى ... لَكِن طواشيه صبيح مليح)
(مَوْلَاهُ قيد لَك عَن وَصله ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
وَذكرت بِهَذَا أَيْضا شَيْئا آخر وَذَلِكَ أَنِّي تعجبت من شهرة الْبَيْتَيْنِ الَّذين مَا أحكمهما بانيهما وَلَا اعتنى بمعانيهما وَمَعَ رداءة السبك سارا وحظهما يَقُول: قفا نضحك من قفا نبك.
وهما:
(مقامات الْغَرِيب بِكُل أَرض ... كبنيان الْقُصُور على الثلوج)