للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوثنية الذي كان يقضي بالتماثل بين الابن المتبني والابن الشرعي. وهو ما يمكن تسميته حرفيا: الزواج بدافع الواجب رغم أي شعور معارض.

وإذا بحثنا الظروف التي عقدت فيها زيجاته الأخرى، نجد أن أغلبها فرضت عليه - ليس بدافع من ضرورة تشريعية مشابهة - وإنما لاعتبارات إنسانية سامية مثل مواساة وتشريف زوجة شهيد أو مهاجر مات بين أصحابه في هجرته أو توثيق بعض الروابط‍ القبلية بين القبائل التي تعاهد معها أو إيجاد جو مناسب لعتق أسرى قبيلة بأكملها (وقد كانوا بالفعل في أيدي المسلمين، وأعتقهم المسلمون في الحال نظرا لقرابتهم الجديدة برسول الله صلّى الله عليه وسلم) ... الخ ولكن هل يجب أن يكون الإنسان مؤرخا لكي يستطيع أن يحكم على الطابع الأخلاقي لرجل عاش شبابه في العفاف المطلق، وبعد زواجه عاش مع زوجته الوحيدة بإخلاص ما يقرب من ثلاثين عاما، وأنه لم يشرع في زواجه الثاني (١) إلا وقد بلغ الخامسة والخمسين؟ وإذا أخذنا في اعتبارنا مشاغله وانشغالاته وأعباءه وهمومه المختلفة العامة منها والخاصة: مثل إقامة الصلوات الخمس منذ الفجر حتى العشاء، وتعليم القرآن، وتوزيع الصدقات العامة، والفصل في المنازعات، ومقابلة الوفود، ومراسلة الملوك والحكام، وقيادة المعارك العسكرية وسن التشريع، وتأسيس الدولة ... الخ. وباختصار العناية بكل شيء، وبكل الناس. ثم بعد ذلك قيام الليل راكعا أو ساجدا أو قائما، متوجها إلى السماء ... كل هذا يدعونا إلى الاعتقاد بأن الباعث الحقيقي على الزواج هو شيء آخر بعيد كل البعد عن إرضاء الغريزة البهيمية (٢).


(١) الواقع أنها خطبت له قبل الهجرة بقليل وهذا يثبت أن مبدأ تعدد الزوجات يرجع إلى تاريخ قديم ولم يكن نتيجة مبدأ جديد في الأخلاق بزغ في جو المدينة.
(٢) اقرأ أقوال عائشة وأمهات المؤمنين عن استخدامه لوقته بالليل، يقلن إنه كان يهجر النوم كل ليلة ليستغرق في صلواته الطويلة، أحيانا يقوم حتى تتورم قدماه (البخاري كتاب التهجد، الباب السادس)، أو ساجدا حتى يظنّ أنه قبض (البيهقي ورد في أنوار النبهاني ص ٥٢٢) وأحيانا كان يذهب إلى المقابر ليصلى على أرواح الموتى (مسلم كتاب الجنائز الباب ٣٥). كل هذا يثبت أن تقوى الرسول صلّى الله عليه وسلم وورعه واستقامته كانت تزيد وتقوى في المدينة بدلا من أن تنقص. وكان من فضل الله أن أحاطت بالرسول صلّى الله عليه وسلم هذه النفوس الورعة التقية، لكي تنقل إلينا جانبا عظيما من سنته، وبصفة خاصة ما يتعلق بتعليم النساء، نصف البشرية، فضلا عن استكمال الدليل على صدقه بشهادتهن عن اخلاقه الحقيقية العميقة في حياته الخاصة، حيث تنهار وتتساقط‍ كل أقنعة النفاق المصطنعة.

<<  <   >  >>