وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ فَقَدْ احْتَجَّ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَلَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ عِنْدَ شُغْلِهِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ إلَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ ظَاهِرًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَثْبُتْ فِي بَابِ الْوُضُوءِ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَصِيغَتِهِ أَمَّا الصِّيغَةُ، فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ مُعَلَّقًا بِالْحَدَثِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ وَكَذَا اسْتِدْلَالُهُمْ بِدَلَالَةِ عَدَمِ الِاطِّرَادِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى دَلَالَةِ الِاطِّرَادِ عَلَى الصِّحَّةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ دَلِيلُ النَّقْضِ، وَالنَّقْضُ بَاطِلٌ فَأَمَّا الِاطِّرَادُ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّقْضِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ عِلَّةً فَإِنْ قِيلَ قَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقَائِقِ وَالْحُكْمِيَّاتِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْجَاعِلَ لِلذَّاتِ مُتَحَرِّكًا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَةِ كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْمِلْكِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْبَيْعِ، ثُمَّ الْعِلَّةُ فِي الْحَقَائِقِ تَثْبُتُ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَكَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ قُلْنَا: الْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ يَكُونَ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَصْلُحُ الدَّوَرَانُ دَلِيلًا عَلَيْهَا بَلْ تُعْرَفُ عِلَلُ الشَّرْعِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ هُوَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا أَيْ مِثْلَ التَّمَسُّكِ بِالطَّرْدِ لَا يُوجَدُ فِي عِلَلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِطَرْدٍ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَأَقْوَى دَلِيلٍ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ إجْمَاعُهُمْ، وَإِنَّمَا نَظَرُوا فِي الْأَقْيِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعَانِي وَسَلَكُوا طَرِيقَ الْمَرَاشِدِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تُشِيرُ إلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَلَوْ كَانَ الطَّرْدُ صَحِيحًا لَمَا عَطَّلُوهُ وَلَا أَهْمَلُوهُ وَلَا تَرَكُوا التَّعْلِيلَ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ.
قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَإِذَا انْتَهَى التَّصَرُّفُ فِي الشَّرْعِ إلَى هَذَا الْمُنْتَهَى كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَاسْتِهَانَةً بِضَبْطِهَا وَتَطْرِيقًا لِكُلِّ قَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا أَرَادَ وَيَحْكُمَ بِمَا شَاءَ؛ وَلِهَذَا صَرَفَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ سَعْيَهُمْ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْمَعَانِي الْمُخَيِّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ.
١ -
قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ قِيَامَ النَّصِّ) إنَّمَا شَرَطَ الْفَرِيقُ الثَّالِثِ مَعَ الدَّوَرَانِ قِيَامَ النَّصِّ وَعَدَمَ حُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذْ وُجِدَ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى وَعُدِمَ بِعَدَمِهِمَا لَمْ يَكُنْ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْمَعْنَى بِأَوْلَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الِاسْمِ كَتَحْرِيمِ الْعَصِيرِ إذَا اشْتَدَّ وَسُمِّيَ خَمْرًا وَزَوَالُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ وَالِاسْمِ أَمَّا إذَا كَانَ الِاسْمُ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُكْمُ دَائِرٌ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا زَالَتْ شُبْهَةُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى لِكَوْنِهِ عِلَّةً وَصَارَ كَمَا إذَا تَعَيَّنَ جِهَةَ الْمَجَازِ فِي النَّصِّ لَا يَبْقَى لِلْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِوَجْهٍ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ فِيهَا رُتِّبَ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَلَمَّا عُلِّلَتْ بِالْحَدَثِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِدُونِ الْحَدَثِ وَوَجَبَ عِنْدَ الْحَدَثِ بِدُونِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ النَّصِّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ فِيهِ رُتِّبَ عَلَى الْغَضَبِ وَلَمَّا عَلَّلَ بِشُغْلِ الْقَلْبِ دَارَ الْحُكْمُ وُجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى حَلَّ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ شُغْلِهِ مَعَ عَدَمِ الْغَضَبِ وَالنَّصُّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ اشْتِرَاطِ قِيَامِ النَّصِّ وَعَدَمِ كَلِمَةِ شَرْطٍ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute