وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَثَرِ إذْ لَا يُوصَفُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ بِالْفَسَادِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلَّةِ، وَقِيَامُ الْحُكْمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِاحْتِمَالِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَكْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ لَكِنَّهُ دَلِيلٌ مُرَجِّحٌ
ــ
[كشف الأسرار]
بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الْعِلَّةِ، وَمَنْ أَلْزَمَ عَلَيْهِ نَقْضٌ فَعَلَيْهِ تَعْلِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُقِضَتْ بِهَا.
وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَدَّعِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِيهَا. وَلَكِنَّ الْحَقَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْحُكْمِ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ لِزَوَالِ قَيْدٍ، وَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قَدْ تَخَلَّفَ حُكْمُهَا بِدُونِ الْمَانِعِ أَوْ بِدُونِ زَوَالِ وَصْفٍ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ) أَيْ، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْمُنَاقَضَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَثَرِ وَظُهُورِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَسَادُ الْوَضْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْوَصْفَ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ فِي وَضْعِهِ فَاسِدٌ لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ لَا يَضَعُ الْفَاسِدَ، وَهُوَ مِثْلُ النَّقْضِ بَلْ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلَّةِ، وَقِيَامُ الْحُكْمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَجَبَ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهَا. فَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَمْ يَقَعْ لِإِبْطَالِ عِلَّةٍ أُخْرَى بَلْ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ بِهَا، وَمَعَ كَوْنِهِ ثَابِتًا بِهَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِعِلَّةٍ لَا يُنَافِي الثُّبُوتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ حَتَّى إذَا رَجَعَ اثْنَانِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَبْقَى الْقَضَاءُ وَاجِبًا بِشَهَادَةِ الْبَاقِينَ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الْعِلَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى دَلِيلَ فَسَادِ الْعِلَّةِ.
وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَيْهِ يُبْتَنَى اشْتِرَاطُ الْعَكْسِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فَمَنْ مَنَعَ مِنْ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِانْحِصَارِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي وَاحِدَةٍ، وَلَزِمَ مِنْهُ اشْتِرَاطُ الِانْعِكَاسِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ فَإِذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ انْتَفَى الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهَا إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ ثَابِتًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَمَنْ جَوَّزَ تَعْلِيلَهُ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ آخَرَ.
احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ لَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بِهِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُسْتَقِلَّةً بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهَا وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ يَلْزَمُ مِنْ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَدَمُ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِاسْتِلْزَامِ عِلِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَدَمَ عِلِّيَّةِ الْغَيْرِ فَضْلًا عَنْ اسْتِقْلَالِهَا. يُبَيِّنُهُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَعَلَّقُوا بِالتَّرْجِيحِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْكَيْلَ وَبَعْضُهُمْ الطُّعْمَ وَبَعْضُهُمْ الْقُوتَ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَلَوْلَا امْتِنَاعُهُ لَمْ يُرَجِّحُوا الْبَعْضَ بَلْ جَوَّزُوا كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ عِلَّةً مِنْ صِحَّةِ اسْتِقْلَالِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْلَالَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ التَّعَارُضِ، وَلَا تَعَارُضَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي قُوَّةِ صَاحِبِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَوْلَا صِحَّةُ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ لَمَا رَجَّحُوا. وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ نَصْبُ عَلَامَتَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ الْحَدَثَ يَقَعُ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَخُرُوجِ الدَّمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute