وَأَمَّا الْفَرْقُ فَإِنَّمَا فَسَدَ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا أَنَّ السَّائِلَ مُنْكِرٌ فَسَبِيلُهُ الدَّفْعُ دُونَ الدَّعْوَى فَإِذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى آخَرَ انْتَصَبَ مُدَّعِيًا؛ وَلِأَنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي
ــ
[كشف الأسرار]
مِنْ الْجِرَاحَةِ مَعًا مَعَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهَا فِي إيجَابِ الْحَدَثِ. وَكَذَا الْقَتْلُ حُكْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ حَيَاةِ الْوَاحِدِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَقَعُ بِالْقِصَاصِ وَالرِّدَّةِ مَعًا كَمَنْ قَتَلَ وَارْتَدَّ مَعَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ.
وَكَذَا لَوْ جَمَعْتَ لَبَنَ زَوْجَةِ أَخِيكَ، وَلَبَنَ أُخْتِكَ، وَأَوْجَرْتَ مُرْتَضِعَةً دَفْعَةً مِنْهَا تَحْرُمُ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّكَ عَمُّهَا وَخَالُهَا مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ حُكْمٌ وَاحِدٌ مُعَلَّلٌ بِالْخُؤُولَةِ وَالْعُمُومَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَالَ إلَى أَحَدَيْهِمَا دُونَ الْأُخْرَى.
فَإِنْ قِيلَ: الْعِلَلُ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً كَانَتْ الْأَحْكَامُ مُتَعَدِّدَةً تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْقِصَاصِ مَثَلًا مُغَايِرٌ لِقَتْلِ الرِّدَّةِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَفِي قَتْلُ الْقِصَاصِ بِالْعَفْوِ وَيَبْقَى الْآخَرُ، وَهُوَ قَتْلُ الرِّدَّةِ لِعَدَمِ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَبِالْعَكْسِ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ يَنْتَفِي قَتْلُ الرِّدَّةِ وَيَبْقَى قَتْلُ الْقِصَاصِ، وَلَوْلَا تَغَايُرُ الْقَتْلَيْنِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا: إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى أَحَدِ دَلِيلَيْهِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدًا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِلَّا لَزِمَ مُغَايَرَةُ حَدَثِ الْبَوْلِ حَدَثَ الْغَائِطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ بَلْ فِي اسْتِنَادِهِ وَلِهَذَا كَانَ الزَّائِلُ بِالْعَفْوِ هُوَ اسْتِنَادُهُ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالزَّائِلُ بِالْإِسْلَامِ هُوَ اسْتِنَادُهُ إلَى الرِّدَّةِ لَا نَفْسُ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ، وَلَمْ يَزُلْ عَمَّا عَلَيْهِ. وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ لُزُومَ التَّنَاقُضِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرُوا، وَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتَقَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِهَا لَا غَيْرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَنَاقُضَ فِي التَّعَدُّدِ إذْ قَدْ يَجْتَمِعُ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ عِلَلٌ لَوْ انْفَرَدَتْ اسْتَقَلَّتْ بِإِثْبَاتِهِ كَمَا اجْتَمَعَ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهَا.
وَكَذَا تَعَلُّقُهُمْ تَرْجِيحَ الْأَئِمَّةِ عِلَّةَ الرِّبَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلتَّرْجِيحِ بَلْ إنَّمَا تَعَرَّضُوا لِإِبْطَالِ كَوْنِ الْغَيْرِ عِلَّةً، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلتَّرْجِيحِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لَهُ لِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ بَلْ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِي الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اتِّحَادُ الْعِلَّةِ هَاهُنَا بِكَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ جَعْلُ عِلَلِ الرِّبَا الْمُخْتَلَفِ فِيهَا آخِرَ الْعِلَّةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَإِذَا حَقَّقْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ عَدَمِ فَسَادِ الْعِلَّةِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ الْبَعْضِ وُجُودَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا فَيَصِحُّ الدَّفْعُ بِهَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْفَرْقُ فَإِنَّمَا فَسَدَ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ) وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى مِنْهُ كَذَا، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَرْعِ وَلِهَذَا فَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ بَيَانُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْقَ اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ وَسَمَّوْهُ فِقْهًا.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ، وَفُقَهَاءِ غَزْنَةَ مُسْتَدِلِّينَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَإِذَا عُورِضَتْ امْتَنَعَتْ صِحَّتُهَا. قَالُوا وَحَقِيقَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَسْتَقِرُّ كَلَامُهُ مَا لَمْ يُبْطِلْ بِمَسْلَكِ السِّيَرِ كُلَّ مَا عَدَا عِلَّتَهُ مِمَّا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهِ فَإِذَا عَلَّلَ، وَلَمْ يُسَيِّرْ فَعُورِضَ مَعْنَى الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ طُولِبَ بِالْوَفَاءِ بِالسِّيَرِ وَتَتَبُّعِ كُلِّ مَا عَدَا عِلَّتَهُ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ. وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِنَاءُ السَّلَفِ بِالْفِرَقِ وَنُقِلَ ذَلِكَ فِي وَقَائِعَ جَرَتْ فِي مَجَامِعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ - مِنْهَا قِصَّةُ إجْهَاضِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute