وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ حَسَنَةً لِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُهُمَا فَصَارَتَا مُتَدَافِعَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ الْأُخْرَى إبْطَالًا مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ
ــ
[كشف الأسرار]
الْعِلَّةِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا.
وَمِثَالُ مَا إذَا تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَا إذَا عَارَضَ السَّائِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّهُ الطَّعْمُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ فَهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ الْفَوَاكِهُ، وَمَا دُونَ الْكَيْلِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ فَسَادُ مَا سِوَاهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ ثُمَّ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَلِفَسَادِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَاللَّامِ الْأُولَى وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ التَّقْدِيرُ الْمُعَارَضَةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى بَاطِلَةً لِكَذَا وَلِفَسَادِ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَدَّى لَا يُفِيدُ تَعْدِيَةً بِوَجْهٍ إذْ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً لَمْ يَبْقَ غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْمُعَارَضَاتُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى، وَمُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مَجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمُعَارَضَةٌ بِمَعْنَى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ لِعَدَمِ حُكْمِ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَلِفَسَادِهِ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَوَاضِعِ النِّزَاعِ إلَّا أَنَّ نَظَرَ الْمَشَايِخِ لَمَّا كَانَ إلَى تَصْحِيحِ الْمَعْنَى لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى رِعَايَةِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ لَفْظَ الْبُطْلَانِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَلَفْظَ الْفَسَادِ فِيمَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ وَعَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ) أَيْ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ بِأَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ حَسَنَةً كَذَا فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ فَيَكُونُ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى فَاسِدَةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ثُمَّ سِيَاقُ كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَإِنَّهُمَا ذَكَرَا إفْسَادَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَأَقَامَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ ثُمَّ قَالَا وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَبَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيهِ فَقَالَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ حَسَنَةٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ لَا كِلَاهُمَا بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَتَا مُتَدَافِعَتَيْنِ أَيْ مُتَنَافِيَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى مِنْ السَّائِلِ إبْطَالًا لِعِلَّةِ الْمُجِيبِ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ وَالْمُدَافَعَةِ فَتَصِحُّ فَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْهُمْ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ إذْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لِإِنْكَارِهِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلسَّائِلِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ التَّدَافُعُ بِالِاتِّفَاقِ فَيَبْطُلُ الْمَعْنَيَانِ بِالتَّعَارُضِ وَيَبْقَى الْأَصْلُ بِلَا مَعْنَى فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَيَقُولُ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَلَّةَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ التَّدَافُعُ فَتَكُونُ الْمُعَارَضَةُ فَاسِدَةً بِالِاتِّفَاقِ لِفَوَاتِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ أَصْلًا.
وَبَيَانُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute