وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى فَسَادِ أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى فِيهِ لَا لِصِحَّةِ الْآخَرِ كَالْكَيْلِ وَالطَّعْمِ وَالصَّحِيحُ أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ لَكِنْ الْفَسَادُ لَيْسَ لِصِحَّةِ الْآخَرِ لَكِنْ لِمَعْنًى فِيهِ يُفْسِدُهُ فَإِثْبَاتُ الْفَسَادِ لِصِحَّةِ الْآخَرِ بَاطِلٌ فَبَطَلَتْ الْمُعَارَضَةُ، وَكُلُّ كَلَامٍ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ
ــ
[كشف الأسرار]
مَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ فِي تَعْلِيلِ الْحِنْطَةِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لِلتَّعْدِيدِ إلَى الْجِصِّ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الطَّعْمُ دُونَ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَقُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْعِلَّتَيْنِ لِإِنْكَارِهِ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ فِي التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ عِلَّةِ السَّائِلِ فَيَثْبُتُ التَّدَافُعُ فَأَمَّا إذَا عَارَضَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالِاقْتِيَاتِ وَالْإِدْخَارِ أَوْ عَارَضَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَدِيدِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَزْنِيَّةِ فَيُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ فَتَكُونُ فَاسِدَةً بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ قَصْدًا بَلْ الِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ذَاتًا لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِأَحَدِهِمَا إلَى فُرُوعٍ وَبِالْآخَرِ إلَى فُرُوعٍ أُخَرَ.
وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لِمَعْنًى فِيهَا لَا لِصِحَّةِ الْأُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا، وَأَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحِنْطَةِ الْكَيْلُ أَوْ الطَّعْمُ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ أَحَدِهِمَا لِصِحَّةِ الْآخَرِ، وَلَا بِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا لِفَسَادِ الْآخَرِ بَلْ قَالَ كُلُّ فَرِيقٍ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ عِلَّةً لِمَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ وَبِفَسَادِ عِلَّةِ صَاحِبِهِ لِمَعْنًى فِيهَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إثْبَاتُ الْفَسَادِ لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِثُبُوتِ صِحَّةِ الْأُخْرَى بَاطِلًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَعْنًى مُفْسِدٍ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ لِثُبُوتِ الْفَسَادِ فِيهِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَعْنًى مُصَحِّحٍ لِثُبُوتِ الصِّحَّةِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِظُهُورِ فَسَادِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لَا يَثْبُتُ التَّأْثِيرُ فِي الْأُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ كَذَلِكَ عَكْسُهُ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ عِنْدَ ثُبُوتِ صِحَّةِ الْأُخْرَى لَزِمَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ أَحَدَيْهِمَا دُونَ صِحَّتِهِمَا. قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ ثَبَتَ صِحَّتُهَا قَطْعًا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بَلْ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْفَاسِدَةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَ صِحَّتَهَا وَالْأُخْرَى هِيَ الصَّحِيحَةُ أَوْ يَقُولُ الْإِجْمَاعُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِدُونِ بَيَانِ الْمُفْسِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُفَارَقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ الْفَرْعِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ صَرَّحَ السَّائِلُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِالْفَرْقِ بِأَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْت ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لِوُجُودِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُتَعَلِّقٌ بِوَصْفِ كَذَا، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَرْعِ فَهِيَ مُتَفَارِقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْفَرْقِ بَلْ قَصَدَ بِالْمُعَارَضَةِ بَيَانَ عَدَمِ انْتِهَاضِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ دَلِيلُك إنَّمَا كَانَ يَنْتَهِضُ عَلَيَّ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْته مُسْتَقِلًّا بِالْعَلِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِ الْوَصْفِ الَّذِي أَقُولُهُ فِي التَّعْلِيلِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُفَارَقَةٍ وَلِهَذَا قَبِلُوا هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا الْمُفَارَقَةَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ رَاجِعٌ إلَى الْمُمَانَعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُفَارَقَةُ هِيَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ فَرْقًا وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مُفَارَقَةً، وَهِيَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ مِنْ السَّائِلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْفَرْقُ بِمَعْنًى فِقْهِيٍّ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ بَيَّنَ الشَّيْخُ وَجْهَ إيرَادِهِ عَلَى طَرِيقٍ يُقْبَلُ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute