وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعَانِي الْعِلَلِ لَكِنْ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ فَإِنْ أُضِيفَتْ الْعِلَّةُ إلَيْهِ صَارَ لِلسَّبَبِ حُكْمُ الْعِلَلِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَذَلِكَ مِثْلُ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا يَتْلَفُ بِهَا لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ لَكِنْ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِالْقِصَاصِ سَبَبٌ لِقَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ حَدَّ الْعِلَلِ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ مَحْضٌ خَالِصٌ فَكَانَ سَبَبًا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَقَدْ سَلَّمَ الشَّافِعِيُّ هَذَا لَا أَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْمُؤَكَّدَ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَكِنَّا قُلْنَا إنَّ فِعْلَ الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ قَتْلٍ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِوَاسِطَةٍ لَيْسَتْ فِي يَدِ الشَّاهِدِ وَهُوَ حُكْمُ الْقَاضِي وَاخْتِيَارُ الْوَلِيِّ قَتْلَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
ــ
[كشف الأسرار]
الرَّقَبَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ الْمَوْتُ وَسِرَايَةُ الْأَلَمِ وَانْتِقَاضُ الْبِنْيَةِ وَنُفُوذُ السَّهْمِ أَحْكَامًا لِلرَّمْيِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالسَّوْقِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِالْقِصَاصِ سَبَبٌ لِقَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا أَنَّهَا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْعِلَلِ فِيهِ أَيْ فِي فِعْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ كَلَامِ الشُّهُودِ لَمْ يُوجَدْ لِتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ كَمَا سَنُبَيِّنُ لَكِنَّهُ أَيْ فِعْلَ الشَّهَادَةِ طَرِيقٌ إلَى الْقَتْلِ مَحْضٌ خَالِصٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُوضَعْ لِلْقَتْلِ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَأْثِيرٌ فِي الْقَتْلِ بِوَجْهٍ لِتَوَسُّطِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ فَكَانَ أَيْ فِعْلُ الشَّهَادَةِ سَبَبًا لَا عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِلْقَتْلِ.
وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِهِ سَبَبًا لَمْ يَجِبْ بِفِعْلِ الشَّهَادَةِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الرُّجُوعِ يَعْنِي إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ الْقِصَاصَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ بِشَهَادَتِهِمْ الْكَاذِبَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْمُبَاشَرَةُ وَقَدْ سَلَّمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ سَلَّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لَهُ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْمُؤَكَّدَ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ أَيْ الْقَصْدِ الْكَامِلِ إلَى الْقَتْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] وَالسَّبَبُ إذَا قَوِيَ وَأَدَّى إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ لِوُقُوعِ الِاحْتِيَاجِ حِينَئِذٍ إلَى الزَّجْرِ فَوَجَبَ الْقَوَدُ بِهِ وَإِذَا ضَعُفَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا اسْتَغْنَى عَنْ الزَّجْرِ فَسَقَطَ الْقَوَدُ وَقَدْ قَوِيَ السَّبَبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَيْنُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَعْنِي قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ إتْلَافَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ إلَّا بِالتَّمْكِينِ فَصَارَتْ شَهَادَتُهُ سَبَبًا مُعَيَّنًا لِلْقَتْلِ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِمَا إتْلَافَ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ أَلْجَئُوا الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ إنْ امْتَنَعَ عَنْهُ وَهُوَ هَلَاكٌ حُكْمِيٌّ شَرٌّ مِنْ الْهَلَاكِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمُلْجِئُ كَالْمُبَاشِرِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ أَتْلَفُوهُ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ إتْلَافٌ حُكْمًا بِأَنْ صَارَ نَفْسُهُ لِغَيْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ ضَمِنُوا الدِّيَةَ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ مُخْتَارًا وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِمُبَاشَرَتِهِمْ الْإِتْلَافَ حُكْمًا ثُمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمُؤَكَّدُ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ مَا ذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ الشُّهُودَ إنْ قَالُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ تَعَمَّدْنَا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ لَا تَقْطَعُ الْمُبَاشَرَةُ حُكْمَهُ فَكَانَ كَالْإِكْرَاهِ وَكَذَا إنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا وَهُمْ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يُتْلِفُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلَهُ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَلَفُوا عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ وَعُزِّرُوا وَتَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مُؤَجَّلَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِقَوْلِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ.
وَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ حَلَفُوا وَتَجِبُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً فِي أَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ لَكِنَّا نَقُول إنَّ فِعْلَ الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ قَتْلٍ بِنَفْسِهِ بِلَا شُبْهَةٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِلْقَتْلِ وَيَتَخَلَّفُ الْقَتْلُ عَنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَبْلَ الشَّهَادَةِ قَتْلًا بِوَاسِطَةٍ لَيْسَ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَحْصِيلُهُ وَهُوَ أَيْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ حُكْمُ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الصَّادِرَيْنِ عَنْ اخْتِيَارٍ إذَا لَيْسَ فِي وُسْعِ الشَّاهِدِ إيجَادُ مَا يُظْهِرُهُ الْقَاضِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute