وَهَذَا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهُ سَبَبًا هُوَ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَعِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ حُكْمًا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ تَبَيَّنَ فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ هَلْ يُطْلَقُ التَّعْلِيقُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ وَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا بِهِ صَارَ لِمَا ضَمِنَ بِهِ الْبِرَّ لِلْحَالِ شُبْهَةُ الْوُجُوبِ كَالْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لِلْغَصْبِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ شُبْهَةُ إيجَابِ الْقِيمَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ الشُّبْهَةُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ كَالْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ فَإِذَا فَاتَ الْمَحَلُّ بَطَلَ
ــ
[كشف الأسرار]
وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ سُمِّيَ سَبَبًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ خَمْرًا فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: ٣٦] وَتَسْمِيَةِ الْبَيْضِ صَيْدًا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: ٩٤] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبَيْضُ فِي عَامَّةِ الْأَقَاوِيلِ وَتَسْمِيَةُ الْأَحْيَاءِ أَمْوَاتًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] .
قَوْلُهُ (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَالْيَمِينِ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ فِي الْحَالِ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ مَذْهَبُنَا حَتَّى لَمْ يَجُزْ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجَوَّزْنَا التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْيَمِينُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ سَبَبًا هُوَ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ وَالْمُعَلَّقَ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا فِي الْحَالِ لَا عِلَّةً بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ وَلَكِنْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ لَا غَيْرُ وَإِذَا كَانَ سَبَبًا فِي الْحَالِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَالْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ وَالْعَبْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِهِ لَيْسَا بِمَحَلَّيْنِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ) يَعْنِي الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ مَجَازًا وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ طَالِقٌ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ أَيْ جِهَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ خَالٍ عَنْ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ وَذَلِكَ أَيْ الْخِلَافُ يَتَبَيَّنُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ هَلْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَالتَّنْجِيزُ تَفْعِيلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاجَزَ يُنَاجِزُ أَيْ نَقَدَ يَنْقُدُ وَأَصْلُهُ التَّعْجِيلُ كَذَا فِي الطِّلْبَةِ فَعِنْدَنَا يُبْطِلُ التَّنْجِيزُ التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ يَعْنِي الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْيَمِينِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ تَحْقِيقُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَلِفِ كَانَ جَائِزَ الْإِقْدَامِ وَالتَّرْكِ فَإِذَا قَصَدَ الْحَالِفُ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَتَحْقِيقَهُ أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى تَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْبِرُّ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ لَا مَحَالَةَ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْيَمِينِ مِنْ الْحَمْلِ وَالْمَنْعِ وَإِذَا صَارَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ يَعْنِي فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ لِمَا ضَمِنَ بِهِ الْبِرُّ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا شُبْهَةُ الْوُجُوبِ أَيْ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ يَعْنِي قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ كَالْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَغْصُوبِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ الْغَصْبُ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ شُبْهَةَ إيجَابِ الْقِيمَةِ حَتَّى صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْقِيمَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ بِهَا حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثُبُوتٌ بِوَجْهٍ لَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كَمَا لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْغَصْبِ.
وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِرَّ وَجَبَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ خَوْفِ لُزُومِ الْجَزَاءِ لَا لِعَيْنِهِ إذْ لَيْسَ إلَى الْعَبْدِ إيجَابُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ نَصْبُ شَرِيعَةٍ وَهُوَ نَزَعَ إلَى الشِّرْكَةِ وَمَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَالْبِرُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَانَ ثَابِتًا مَوْجُودًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِعَيْنِهِ كَانَ مَعْدُومًا فِي نَفْسِهِ فَثَبَتَ لَهُ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ يَثْبُتُ بِقَدْرِهَا عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ فَثَبَتَ لِسَبَبِهِ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ أَيْضًا لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَنْ قَدْرِ سَبَبِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute