للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ نُرِيدُ أَنَّهُ إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجْرِبَةِ وَأَلْهَمَهُ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ

ــ

[كشف الأسرار]

الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِفْ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ يَكُونُ مُرْتَدًّا فَكَذَلِكَ هَذَا وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِالْعَقْلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ وَسَائِرِ خَلْقِ رَبِّهِ أَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَمَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ قَالَ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ قَالُوا إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ كَامِلٌ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الِاسْتِدْلَالَ فَإِذَا بَلَغَ عَقْلُ الصَّبِيِّ هَذَا الْمَبْلَغَ كَانَ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءً فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي ضَعْفِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّتِهَا فَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي عَمَلِ الْأَرْكَانِ لَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» الْحَدِيثَ عَلَى الشَّرَائِعِ.

قُلْت وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ سِوَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ مُوجِبًا وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِإِيجَابِهِ كَالْخِطَابِ

وَالصَّحِيحُ مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الصَّبِيِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ثُمَّ لَمَّا سَقَطَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَنْ الصَّبِيِّ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْبَالِغِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِيجَابِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِجَهْلِهِ بِاَللَّهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْلَ قَدْ أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي إسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى سَقَطَتْ الْعِبَادَاتُ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا كَمَا سَقَطَتْ عَنْ الصَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ الْجَهْلُ بِالصَّبِيِّ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَقَدَ الْكُفْرَ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا لِأَنَّا إنَّمَا عَذَرْنَاهُ فِي جَهْلِهِ لِسُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ عَنْهُ وَلَا مَعْرِفَةَ بِدُونِهِ كَمَا عَذَرْنَا النَّائِمَ وَالصَّبِيَّ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِدْلَالٍ وَحُجَّةٍ فَلَمْ يُعْذَرُ فِيمَا أَحْدَثَ مِنْ اعْتِقَادِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ.

قَوْلُهُ (وَمَعْنَى قَوْلِنَا) كَذَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إنَّمَا لَمْ يُكَلَّفْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَصَارَ مَعْذُورًا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ التَّأَمُّلِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِأَنْ بَلَغَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَمَّا إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا لِأَنَّ الْإِمْهَالَ وَإِدْرَاكَ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي حَقِّ تَنْبِيهِ الْقَلْبِ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ فَلَا يُعْذَرُ بَعْدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِنَاءً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ بَانِيًا وَلَا صُورَةً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ مُصَوِّرًا فَكَيْفَ يُعْذَرُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ صُوَرًا حَسَنَةً وَبَعْدَ إدْرَاكِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فِي جَهْلِهِ بِخَالِقِهَا وَمُصَوِّرِهَا بَلْ يَلْزَمُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَا يُتِمُّ بِهِ الْمَعْرِفَةُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِالْخَالِقِ لِمَا يَرَى فِي الْعَالَمِ مِنْ آثَارِ

<<  <  ج: ص:  >  >>