وَكَانَ الْخِطَابُ بِهَا مَوْضُوعًا عَنْهُ عِنْدَنَا وَلَزِمَهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِأَدَائِهِ وَوُجُوبُ حُكْمِهِ وَلَمْ يُجْعَلْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ رَأْسُ أَسْبَابِ أَهْلِيَّةِ أَحْكَامِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا مُقْتَضِيًا
ــ
[كشف الأسرار]
أَدَاءِ الشَّرْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ الْأَدَاءُ وَفَائِدَةُ الْأَدَاءِ نَيْلُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ مَعَ صِفَةِ الْكُفْرِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلثَّوَابِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَبْدِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ وَالْمَرْأَةِ لَا تَكُونُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَلَا بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا انْتَفَتْ أَهْلِيَّةُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْأَدَاءِ انْتَفَتْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ بِدُونِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَهَذَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِأَدَائِهِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ.
وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ إيجَابَ الشَّرَائِعِ عَلَى الْكَافِرِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ يَجِبَ لِتُؤَدَّى فِي حَالَةِ الْكُفْرِ أَوْ لِتُؤَدَّى بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ قَضَاءَهَا لَا يَجِبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَتَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ غَيْرُ جَائِزٍ سَمْعًا وَعَقْلًا.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُجْعَلْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا إنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْخِطَابِ بِالشَّرَائِعِ مَعَ صِفَةِ الْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ أَهْلٌ لَهُ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ فَجَعَلَ الْإِيمَانَ ثَابِتًا اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِتَكْلِيفِهِ بِالشَّرَائِعِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ بِأَدَاءِ الشَّرَائِعِ ثَانِيًا فَقَالَ إنَّمَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ اقْتِضَاءً إذَا كَانَ صَالِحًا لِلتَّبَعِيَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالِاقْتِضَاءِ تَابِعٌ لِلْمُقْتَضِي لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِتَصْحِيحِهِ وَلَيْسَ الْإِيمَانُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأْسُ أَهْلِيَّةِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَثْبُتَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الشَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ عَنْ نَفْسِك عَبْدًا أَوْ قَالَ لَهُ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا مِنْ النِّسَاءِ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْإِعْتَاقِ وَبِتَزَوُّجِ الْأَرْبَعَ وَلَا تَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِلْأَمْرِ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ الْإِعْتَاقُ وَتَزَوَّجُ الْأَرْبَعِ وَهُمَا تَبَعٌ لَهَا فَلَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى لِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى لِشَيْءٍ إذَا تَقَرَّرَ الْمُقْتَضِي كَالْبَيْعِ يَثْبُتُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ لِتَقَرُّرِ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبَيْعِ، وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ هَاهُنَا لَا يَبْقَى وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مُقْتَضًى بِهِ.
وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ سُقُوطَ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ عَنْ الْكُفَّارِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي حَقِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ ثَوَابِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ لِلْمُؤَدِّي الْمَأْمُورِ لَا لِلْآمِرِ فَالْكَافِرُ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا النَّظَرَ وَالْمَنْفَعَةَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ وَكَذَا الْإِيجَابُ بِالْأَمْرِ نَظَرٌ مِنْ الشَّرْعِ لِلْمَأْمُورِ فَعَسَى أَنْ يُقَصِّرَ فِيمَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ فِي أَدَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذَا النَّظَرِ فَكَانَ عَدَمُ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ إيَّاهُمْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَإِلْحَاقًا لَهُمْ بِالْبَهَائِمِ لَا تَخْفِيفًا وَلِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ لِيَسْعَى الْمَرْءُ بِأَدَائِهَا فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «النَّاسُ غَادِيَانِ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا» يَعْنِي بِالِائْتِمَارِ بِالْأَوَامِرِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلسَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يُؤْمِنْ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِتَوَصُّلِ الْمُكَاتَبِ إلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ لَا يَكُونُ إسْقَاطُ الْمَوْلَى هَذِهِ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ عِنْدَ عَجْزِهِ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَإِنَّ مَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ فَوْقَ ضَرَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute