وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِوُجُوبِ كُلِّ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ عَلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الذِّمَّةِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ السُّقُوطُ بِعُذْرِ الْحَرَجِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ كُنَّا عَلَيْهِ مُدَّةً لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ وَهَذَا أَسْلَمُ الطَّرِيقَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَتَقْلِيدًا وَحُجَّةً
ــ
[كشف الأسرار]
الْمُطَالَبَةِ بِالْأَدَاءِ وَمِثَالُهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ مُطَالَبَةُ الطَّبِيبِ الْمَرِيضَ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ إذَا كَانَ يَرْجُو لَهُ الشِّفَاءَ يَكُونُ نَظَرًا مِنْ الطَّبِيبِ لَهُ وَإِذَا أَيِسَ مِنْ شِفَائِهِ فَتَرْكُ مُطَالَبَتِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا مِنْهُ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا بِمَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ شُرْبِ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَا يَذُوقُ مِنْ كَأْسِ الْحِمَامِ فَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ الشَّرَائِعِ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّخْفِيفِ بَلْ يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ عِظَمِ الْوِزْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِيمَا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ.
وَهُوَ كَسُقُوطِ خِطَابِ الْإِيمَانِ عَنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ الْبَعْثِ إذْ لَوْ بَقِيَ لَقُبِلَ مِنْهُمْ إذَا أَجَابُوا فَإِنَّ ذَلِكَ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا بَلْ بِكَوْنِ تَنْكِيلًا وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَقِدُونَ لَهَا أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ وَحَقِّيَّتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة: ٥] أَيْ قَبِلُوهَا وَاعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهَا بِدَلِيلِ أَنَّ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْأَدَاءِ أَوْ الْمُرَادُ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ لِلْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» أَيْ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: ٧] لَا يُقِرُّونَ بِفَرْضِيَّتِهَا كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ أَوْ لَا يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِيمَانِ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فَائِدَةُ الْوُجُوبِ الْإِثْمُ وَالْعُقُوبَةُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَدَاءِ لَا لِلْإِثْمِ فَلَمْ يَجُزْ التَّصْحِيحُ لِمَكَانِ الْإِثْمِ بِالتَّرْكِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمِيزَانِ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا) أَرَادَ بِهِ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعًا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ حِينِ يُولَدُ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْبَالِغِ ثُمَّ بِسُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبٍ بِعُذْرِ الصِّبَا لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْأَسْبَابِ وَقِيَامِ الذِّمَّةِ لَا عَلَى الْقُدْرَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَحَقُّقِهَا فِي حَقِّ الْبَالِغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْبَالِغَ فِي حَقِّ الذِّمَّةِ وَالسَّبَبِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَيَثْبُتُ الْوُجُودُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالْمَحَلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَلْزَمُ الْآدَمِيَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَجِبُ جَبْرًا بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ شَاءَ أَوْ أَبَى وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارٍ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قُدْرَةِ الْفِعْلِ وَلَا قُدْرَةِ التَّمْيِيزِ.
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ حُكْمٌ وَرَاءَ أَصْلِ الْوُجُوبِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ الْمَجْنُونَ تَلْزَمُهُمْ الصَّلَاةُ عَلَى أَصْلِنَا بِوُجُودِ السَّبَبِ وَالذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ التَّمَيُّزِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ فَكَذَا الصَّبِيُّ إلَّا أَنَّهَا تَسْقُطُ بِعُذْرِ الصِّبَا بَعْدَ الْوُجُوبِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلَا يُقَالُ الْوُجُوبُ يُثْبِتُ الْأَدَاءَ لَا لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ الْإِيجَابُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِأَنَّا نَقُولُ الْوُجُوبُ الْأَدَاءُ لَا حَالَ الْوُجُوبَ بَلْ يَجُوزُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ إمَّا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَصَحَّ الْإِيجَابُ عَلَى مَنْ يُرْجَى لَهُ قُدْرَةُ الْأَدَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَالصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأَدَاءَ ثَمَرَةُ الْوُجُوبِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بِعَدَمِ ثَمَرَتِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ مُفْلِسٍ يَجِبُ الثَّمَنُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ كُنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ زَمَانًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ وَالذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَا هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute