للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا وَلَكِنْ حُقُوقُ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَقِّهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا ابْتِلَاءٌ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِلَاءٌ لَكِنْ النِّسْيَانُ إذَا كَانَ غَالِبًا يُلَازِمُ الطَّاعَةَ إمَّا بِطَرِيقِ الدَّعْوَةِ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ حَالِ الْبَشَرِ مِثْلَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ جُعِلَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ اُعْتُرِضَ فَجُعِلَ سَبَبًا لِلْعَفْوِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ بِعُذْرٍ مِنْ جِهَتِهِمْ وَالنِّسْيَانُ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ وَضَرْبٌ يَقَعُ فِيهِ الْمَرْءُ بِالتَّقْصِيرِ وَهَذَا يَصْلُحُ لِلْعِتَابِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ فِي الْحَالِ قَدْ افْتَرَقَا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ وَلِيِّهِ وَفِي الْمَجْنُونِ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ دُونَ نَفْسِهِ فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجْنُونَ يُسَاوِي الْمَعْتُوهَ وَالصَّبِيَّ الْعَاقِلَ فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ فِي الْحَالِ وَيُفَارِقُهُمَا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّهِ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ وَفِي حَقِّهِمَا الْعَرْضُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَيُفَارِقُ الْمَجْنُونُ الصَّغِيرَ فِي الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ وَفِي الْوُجُوبِ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا وَيُفَارِقُ الْمَعْتُوهُ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فِي الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْوُجُوبِ عَلَى النَّفْسِ دُونَ الْوَلِيِّ وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ.

(قَوْلُهُ وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَكَذَا) قِيلَ النِّسْيَانُ مَعْنًى يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ فَيُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الْحِفْظِ وَقِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَهْلِ الطَّارِئِ وَيَبْطُلُ اطِّرَادُ هَذَيْنِ التَّعْرِيفَيْنِ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَقِيلَ هُوَ جَهْلُ الْإِنْسَانِ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا بِآفَةٍ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُمَا خَرَجَا بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِأَشْيَاءَ كَانَا يَعْلَمَانِهَا قَبْلَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَبِقَوْلِهِ لَا بِآفَةٍ عَنْ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ جَهْلٌ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ قَبْلَهُ مَعَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَكِنَّهُ بِآفَةٍ وَقِيلَ هُوَ آفَةٌ تَعْتَرِضُ لِلْمُتَخَيِّلَةِ مَانِعَةٌ مِنْ انْطِبَاعِ مَا يَرِدُ مِنْ الذِّكْرِ فِيهَا وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بَدِيهِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ إذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْقِلُ النِّسْيَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا يَعْلَمُ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ.

ثُمَّ إنَّهُ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْعَقْلَ وَلَا حُكْمَ الْفِعْلِ وَلَا الْقَوْلَ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الْقَصْدُ إذْ الْقَصْدُ إلَى فِعْلٍ بِعَيْنِهِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ كَقَصْدِ زِيَارَةِ زَيْدٍ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ زَيْدٍ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْعَجْزِ فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي بَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ لِأَنَّ النَّاسِيَ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ كَسَائِرِ الْأَعْذَارِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ وَإِيجَابُ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ لَا يُؤَدِّي إلَى إيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ لِيَمْتَنِعَ الْوُجُوبُ بِهِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَنْسَى عِبَادَاتٍ مُتَوَالِيَةً تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ غَالِبًا فَصَارَ فِي حُكْمِ النَّوْمِ وَلِهَذَا قَرَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نِسْيَانِ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمِ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثَ وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ لَا لِلِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ حَقُّ الِابْتِلَاءِ لِيُظْهِرَ طَاعَتَهُ لَهُ بَلْ حَقُّهُ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ فَيَسْتَحِقُّ حُقُوقًا تَتَعَلَّقُ بِهَا قِوَامِهَا كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَفُوتُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِلَاءٌ لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَلَهُ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ فَكَانَ إيجَابُ الْحُقُوقِ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ ابْتِلَاءً لَهُمْ مَعَ غِنَاءٍ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٦] .

قَوْلُهُ (لَكِنْ النِّسْيَانُ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُجْعَلُ عُذْرًا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِوَجْهٍ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ غَالِبًا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ: يُلَازِمُ الطَّاعَةَ صِفَةٌ لِغَالِبًا وَقَوْلُهُ جُعِلَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ خَبَرُ لَكِنَّ أَيْ إذَا كَانَ النِّسْيَانُ غَالِبًا فِي عِبَادَةٍ بِحَيْثُ يُلَازِمُهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>