للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنِّسْيَانُ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الذَّبِيحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ فَبَطَلَتْ التَّعْدِيَةُ حَتَّى أَنَّ سَلَامَ النَّاسِي لَمَّا كَانَ غَالِبًا عُدَّ عُذْرًا.

ــ

[كشف الأسرار]

وَأَرَادَ بِالْمُلَازَمَةِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الطَّاعَةُ عَنْهُ فِي الْأَغْلَبِ إمَّا بِطَرِيقِ الدَّعْوَةِ أَيْ دَعْوَةِ الطَّبْعِ إلَى مَا يُوجِبُ النِّسْيَانَ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا دَعَا إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ أَوْجَبَ ذَلِكَ النِّسْيَانَ الصَّوْمُ لِأَنَّ النَّفْسَ لَمَّا اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَفْلَتِهَا عَنْ غَيْرِهِ عَادَةً وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ حَالِ الْبَشَرِ مِثْلَ التَّسْمِيَةِ أَيْ مِثْلَ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ فَإِنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يُوجِبُ خَوْفًا وَهَيْبَةً لِنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُ وَيَتَغَيَّرُ مِنْهُ حَالُ الْبَشَرِ وَلِهَذَا لَا يُحْسِنُ الذَّبْحَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَيَكْثُرُ الْغَفْلَةُ عَنْ التَّسْمِيَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِالْخَوْفِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَيَانَ حَصْرِ غَلَبَةِ النِّسْيَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بَلْ الْمُرَادُ بَيَانُ بَعْضِ أَسْبَابِ الْغَلَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ سَلَامَ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ غَالِبٌ وَلَيْسَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ جُعِلَ أَيْ النِّسْيَانُ الْمَوْصُوفُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَجُعِلَ كَأَنَّ الْمُفْطِرَ لَمْ يُوجَدْ فَيَبْقَى الصَّوْمُ وَجُعِلَ كَأَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ وُجِدَتْ فَتَحِلُّ الذَّبِيحَةُ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ وُجُودِهَا الْحِلُّ وَعِنْدَ عَدَمِهَا الْحُرْمَةُ وَهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ اعْتَرَضَ لِحُدُوثِهِ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْقِطَاعِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ قَسَّمَ النِّسْيَانَ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَمَا يَصْلُحُ فَقَالَ وَالنِّسْيَانُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ وَأَرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ وَهَذَا الْقِسْمُ يَصْلُحُ عُذْرًا لِغَلَبَةِ وُجُودِهِ وَضَرْبٌ يَقَعُ الْمَرْءُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ بِأَنْ لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ التَّذَكُّرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الضَّرْبُ يَصْلُحُ لِلْعِتَابِ أَيْ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِلتَّقْصِيرِ لِعَدَمِ غَلَبَةِ وُجُودِهِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَصِيرُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي حَقِّ الشَّرْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَفْلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا كَمَا فِي حَقِّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَنِسْيَانِ الْمَرْءِ مَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَذْكَارِهِ بِالتَّكْرَارِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ فِيهِ بِتَقْصِيرِهِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ مَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ بَعْدَمَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّذْكَارِ بِالتَّكْرَارِ.

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُسَافِرٍ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَنَّهُ يُعِيدُ لِأَنَّ هَذَا نِسْيَانٌ صَدَرَ عَنْ تَقْصِيرٍ لِأَنَّ رَحْلَ الْمُسَافِرِ مَعْدِنُ الْمَاءِ عَادَةً بِمَنْزِلَةِ قِرْبَةٍ عَامِرَةٍ فَكَانَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الطَّلَبِ فَلَا يُعْذَرُ بِهَذَا النِّسْيَانِ قَوْلُهُ (وَالنِّسْيَانُ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ) وَالذَّبِيحَةِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا مِثْلَ مُبَاشَرَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ الْمُعْتَكِفِ مَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ وَاعْتِكَافَهُ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ وَاعْتِكَافِهِ وَمِثْلَ تَكْلِيمِ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ فِي أَيِّ رُكْنٍ كَانَ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ وَمِثْلَ تَسْلِيمِهِ فِي غَيْرِ الْقَعْدَةِ نَاسِيًا أَوْ تَسْلِيمِهِ عَلَى الْغَيْرِ فِي أَيِّ حَالِ كَانَ حَتَّى فَسَدَ الْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَمْ يُجْعَلْ النِّسْيَانُ عُذْرًا لِأَنَّ هَذَا النِّسْيَانَ لَيْسَ مِثْلَ النِّسْيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ وَهُوَ نِسْيَانُ الصَّوْمِ وَالتَّسْمِيَةُ فِي الذَّبِيحَةِ لِوُجُودِ هَيْئَةٍ مُذَكِّرَةٍ لِهَؤُلَاءِ تَمْنَعُهُمْ عَنْ النِّسْيَانِ إذَا نَظَرُوا إلَيْهَا فَكَانَ وُقُوعُهُمْ فِيهِ لِغَفْلَتِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ سَلَامَ النَّاسِي لَمَّا كَانَ غَالِبًا بِأَنْ سَلَّمَ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى ظَانًّا أَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ عُدَّ عُذْرًا حَتَّى لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِهِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ مَحَلُّ السَّلَامِ وَلَيْسَ لِلْمُصَلِّي هَيْئَةً تُذَكِّرُهُ أَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَيَكُونُ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ فَلِذَلِكَ يُجْعَلُ عُذْرًا.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْمُ) فَكَذَا النَّوْمُ فَتْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْإِنْسَانِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَتَمْنَعُ الْحَوَاسَّ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>