للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ الْحِلُّ انْتَقَصَ بِالرِّقِّ لِأَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَيَتَّسِعُ بِالْحُرِّيَّةِ وَيَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ إلَّا امْرَأَتَيْنِ وَكَذَلِكَ حِلُّ النِّسَاءِ يَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى صَحَّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْحُرَّةِ وَلَا يَصِحُّ إذَا تَأَخَّرَ أَوْ قَارَنَ لِتَعَذُّرِ التَّنْصِيفِ فِي الْمُقَارَنَةِ وَالْعِدَّةُ يَتَنَصَّفُ لَكِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَيَتَكَامَلُ

ــ

[كشف الأسرار]

لَمْ يَجِدْ مَحَلًّا آخَرَ سِوَى الرَّقَبَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا هَدَرَ أَمْلَاكُ النَّاسِ فَعَلَّقْنَاهُ بِهَا إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّقَبَةُ هَالِكَةً فِي جِنَايَةٍ وَدَيْنُ التِّجَارَةِ وَجَدَ مَحَلًّا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ الْكَسْبُ الْحَاصِلُ بِالتِّجَارَةِ فَإِنَّ دَيْنَ التِّجَارَةِ لَا يَجِبُ إلَّا وَيَدْخُلُ الْكَسْبُ فِي يَدِهِ فَلَمَّا كَانَ الْكَسْبُ حَاصِلًا بِالتِّجَارَةِ وَهُوَ مُقَابَلٌ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ أَمْكَنَ تَعْلِيقُهُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْلِيقِ بِرَقَبَةٍ.

وَقُلْنَا هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ جَمِيعًا أَوْ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا لِأَنَّ حَاجَتَنَا فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ظُهُورِ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا إلَى رِضَاهُ بِهِ فَإِنَّ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بِدُونِ رِضَاهُ فَإِذَا ظَهَرَ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَاءٍ مِنْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْأَمْوَالِ إلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْرِيعِ ذِمَّتِهِ فَكَانَ التَّعَلُّقُ بِهَا أَوْلَى (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ مَحَلًّا لَتَعَلَّقَ دَيْنُ التِّجَارَةِ بِهَا لَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا مُقَدَّمًا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَسْبِ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ قُلْنَا حَقُّ الْغَرِيمِ مَتَى وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ وَصَلَ لَمْ يَصِحَّ مُطَالَبَتُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَضَى دَيْنَ الْعَبْدِ مِنْ مَالِهِ وَاسْتَخْلَصَ الْكَسْبَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْكَسْبِ فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّقَبَةِ.

وَفِي الْبِدَايَةِ بِالْكَسْبِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى حَيْثُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ فَيَتَصَرَّفُ وَيَرْبَحُ وَنَظَرٌ لِلْغَرِيمِ حَيْثُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْ الْكَسْبِ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَضِقْ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْكَسْبِ وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ أَسْبَقَ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْكَسْبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَيْ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُهُ فِي حَقِّهِ تَأَخَّرَ الدَّيْنُ إلَى عِتْقِهِ أَيْ لَا يُطَالِبُ الْعَبْدَ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يُعْتَقَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ أَيْ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ لِأَنَّهُمَا حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّهِ مِثْلُ دَيْنٍ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمَحْجُورِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فِيهِ وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَرَجُلٍ أَخْبَرَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُخْبِرُ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ بِقَدْرِ كَوْنِهِ حُجَّةً وَدَيْنُ التِّجَارَةِ كَخَبَرٍ اتَّصَلَ بِهِ تَصْدِيقُ ذِي الْيَدِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْمَحْجُورُ عَنْ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ إقْرَارَاهُ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَمِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَة بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَيَدْخُلَ بِهَا حَتَّى وَجَبَ الْعُقْرُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةً لِلْبُضْعِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَهِيَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ الْوَاقِعُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَعْدُومَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ فَلَا يَظْهَرُ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّهِ.

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْحِلُّ) أَيْ وَكَمَا ضَعُفَتْ الرَّقَبَةُ بِالرِّقِّ انْتَقَصَ الْحِلُّ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَيَصِيرُ الْمَرْءُ بِهِ أَهْلًا لِلنِّكَاحِ فَيَتَّسِعُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِالْحُرِّيَّةِ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا عَلَى الرِّقِّ كَمَا اتَّسَعَ بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتَزَوَّجُ الْحُرُّ أَرْبَعًا وَيَقْصُرُ بِسَبَبِ الرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ إلَّا مَرْأَتَيْنِ حُرَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ أَمَتَيْنِ.

وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِيَّةِ النِّكَاحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>