للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي فَوَجَبَ بِنَاءُ التَّقَوُّمِ عَلَى التَّرَاضِي، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ يَعْتَمِدُ أَوْصَافَ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَيْهَا يَمْنَعُ التَّقَوُّمَ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَا يَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرْضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرْضِ الْقَائِمِ بِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فَلَمْ يَصْلُحْ مَثَلًا لَهُ مَعْنًى بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْعُدْوَانِ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ فَبُنِيَتْ عَلَى الْوُسْعِ وَالتَّرَاضِي

ــ

[كشف الأسرار]

الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَرُدُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَجَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ إلَى آخِرِهِ وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا وَمَا قُلْنَا إبْقَاءُ الْأَمْرِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ إلَى حِينِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلَهُ يَتَأَخَّرُ حُكْمُهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الثَّمَرَةِ لَا أَنَّهَا تُجْعَلُ مَوْجُودَةً، وَلِأَنَّ إقَامَةَ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي الشَّرْعِ أَمْرٌ شَائِعٌ كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّوْمِ مُقَامَ الْحَدَثِ وَالْبُلُوغِ مُقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَحَدَثِ الْمِلْكِ مُقَامَ شَغْلِ الرَّحِمِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَأَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ اسْتِمْرَارٌ مِثْلُ اسْتِمْرَارِ مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ مَا قُلْنَا أَصَحَّ وَقَوْلُهُ.

(أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ بِطَرِيقِ التَّوْضِيحِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَثْبُتُ وَصْفًا مُفَارِقًا بِهِ يُفْسِدُ الْقِيَاسَ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَفِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَصْفٌ يُفَارِقُ بِهِ الْمَقِيسَ وَهُوَ الرِّضَاءُ؛ لِأَنَّ لِلرِّضَاءِ أَثَرًا فِي إيجَابِ أَصْلِ الْمَالِ وَفَضْلِهِ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا ضَمَانُ الْعُدْوَانِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَوْصَافِ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَى أَوْصَافِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ عَدَمَ الضَّمَانِ هَهُنَا فَصَارَ هَذَا الْقِيَاسُ كَمَا قِيلَ مَسُّ الْفَرْجِ حَدَثٌ كَمَا إذَا مَسَّ وَبَالَ، وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا إنَّمَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا عَنْ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ التَّقَوُّمِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَتَقَوَّمَ الْمَنَافِعُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، فَأَمَّا إثْبَاتُ التَّقَوُّمِ وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّرَاضِي فَمَوْجُودٌ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بِخِلَافِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، ثُمَّ الِانْفِصَالُ عَنْ لُزُومِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا هُوَ أَنَّ التَّقَوُّمَ لَمَّا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْعَقْدِ لَا تَمَيُّزَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بَلْ يُؤْخَذُ حُكْمُ الْفَاسِدِ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَا يُجْعَلُ الْفَاسِدُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا.

قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا عَرَضًا وَالْعَيْنُ تُقَوَّمُ بِنَفْسِهَا فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِهِ بَيْنَ مَا تَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرَضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِهِ أَيْ الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ قَوْلِهِ (تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّفَاوُتُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوُجُودِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ نَحْوُ الْجُمْدِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهُ تُضْمَنُ الدَّرَاهِمُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يَبْقَى أَزْمِنَةً كَثِيرَةً وَالْجُمْدُ وَنَحْوُهُ لَا يَبْقَى فَكَذَا التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْبَقَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ الْوُجُودِ، فَأَجَابَ الشَّيْخُ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فَاحِشٌ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا فِي كُلِّ مَعْنًى فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ مِثْلٌ لِلْحَيَوَانِ فِي الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَهُنَا التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْمَالِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالِيَّةَ الْمَنَافِعِ لَا تُسَاوِي مَالِيَّةَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ وَالْمَالِيَّةُ صِفَةٌ لِلْمَوْجُودِ، فَإِذَا كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>