للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ وَهُوَ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي دَارِ إنْسَانٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالطَّلَبِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُوجَدْ الْمُطَالَبَةُ بِدَلَالَةِ أَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ بِضِيقِ الْوَقْتِ.

وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا مَاتَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَ الْأَصْلُ وَتَرَاخَى وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَالْخِطَابُ فَكَذَلِكَ عَنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ.

ــ

[كشف الأسرار]

تَوَقُّفَ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ هَهُنَا فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ أَيْ تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ وَمَهْرِ النِّكَاحِ أَيْ الثَّمَنُ وَالْمَهْرُ الثَّابِتُ بِهِمَا، يَجِبَانِ بِالْعَقْدِ أَيْ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ لِامْتِنَاعِ خُلُوِّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ وَالنِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ فِيهِمَا يَتَأَخَّرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِأَجَلٍ يَجِبُ الثَّمَنُ فِي الْحَالِ وَيَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ وَكَمَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَثْبُتُ نَفْسُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَيَنْعَدِمُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لِلْحَالِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى وُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الطَّلَبُ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ أَيْ فَوَّضَ إلَيْهِ تَعَيُّنَ الْجُزْءِ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَالَبَهُ بِالْأَدَاءِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَقِيَ الْعَبْدُ مُخَيَّرًا فِي الْأَدَاءِ فِي أَيِّ جُزْءٍ شَاءَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَ عَنْ الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لِتَحَقُّقِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْوُجُوبُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَتَأَخَّرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ يَعْنِي الْوُجُوبَ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا لَا بِالْخِطَابِ بَلْ يَثْبُتُ بِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ.

قَوْلُهُ (وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ قُلْنَا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ، مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ أَيْ مَشْرُوطَةٌ لِوُجُودِ الْفِعْلِ لَا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ السَّبَبَ مُوجِبٌ وَهُوَ جَبْرِيٌّ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ؛ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا فِي الْجَبْرِيِّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقُدْرَةَ سَابِقَةً عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَبْرٌ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ أَمَّا فِعْلُ الْأَدَاءِ فَيَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ لَا مَعَ الْخِطَابِ.

وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ أَيْ لِأَجَلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتِهِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَكَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتِهِ كَذَلِكَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ فَنَفْسُ الْوُجُوبِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَذَلِكَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُودِ نَفْسِ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ مِنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذْ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَوُجِدَ الْإِيمَانُ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَخَلُّفُ الْمُرَادِ عَنْ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ وَاضْطِرَارٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُ وَالْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ حَالَ كُفْرِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا ثُمَّ قَدْ لَا تُوجَدُ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ وُجُوبِ الْخِطَابِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَشْيَاءُ ثَلَاثَةٌ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ وَوُجُودُ الْفِعْلِ فَنَفْسُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>