وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٥] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مَعْرِفَةً وَالْيُسْرُ أُعِيدَ نَكِرَةً إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى ذَلِكَ الْأَلْفَ فَإِعَادَتُهُ تَحْصُلُ مُعَرَّفًا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَاكَ صَارَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ وَالْمُنَكَّرِ أَوْ الْمُعَرَّفِ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ مَالَانِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ فِي جَمْعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعْلِهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ فَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الثَّانِي مُعَرَّفًا مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَقَارِيرَ بِالزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جُعِلَ فِي حُكْمِ إقْرَارٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا كُرِّرَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ.
هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٥] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٦] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَطَلَبَهُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَكَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْيُسْرَ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً أَوْ نَكِرَةً أَوْ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُسْتَغْرِقَةٌ لِلْجِنْسِ وَالنَّكِرَةَ مُتَنَاوِلَةٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمًا كَانَ أَوْ مُؤَخَّرًا وَالنَّكِرَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْبَعْضِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَوْ انْصَرَفَتْ إلَى الْأُولَى لَتَعَيَّنَتْ ضَرْبَ تَعَيُّنٍ بِأَنْ لَا يُشَارِكَهَا غَيْرُهَا فِيهِ فَلَا يَبْقَى نَكِرَةً وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ الْعُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهَلٍ وَقُلْنَا الْقَوْمُ أَخَوَانِ ... عَسَى الْأَيَّامُ أَنْ يُرْجِعْنَ يَوْمًا كَاَلَّذِي كَانُوا
وَمِثَالُ الثَّالِثِ قَوْله تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: ١٥] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: ١٦] . وَمِثَالُ الرُّجُوعِ الْيُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كُلَّ جُزْءٍ إلَى تَطْلِيقَةٍ نَكِرَةٍ فَكَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً فَكَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ وَسُدُسَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ جَاءَنِي الْيَوْمَ نِسَاءٌ حِسَانٌ أَوْ رَأَيْت الْيَوْمَ نِسَاءً حِسَانًا أَوْ عَبِيدًا حِسَانًا ثُمَّ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً فَكَذَا أَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَكَذَا فَتَزَوَّجَ ثُلُثًا مِنْ غَيْرِهِنَّ أَوْ اشْتَرَى ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute