للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ فَتُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي فَإِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْبُنُوَّةِ بُطْلَانَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ.

وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَقَدْ أَمْكَنَ بِمَجَازِهِ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْمَجَازِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ وَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ بِوَاسِطَةِ الْبُنُوَّةِ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ سَبَبًا لِلْبُنُوَّةِ وَالْبُنُوَّةُ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَاسْتِعَارَةُ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ طَرِيقٌ مَعْهُودٌ فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا لِمُسَبِّبِهِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَلَا يُقَالُ الْعِتْقُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْبُنُوَّةِ بَلْ هُوَ حُكْمُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمِلْكُ هَهُنَا دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ وَالْقَرَابَةُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْعِتْقِ فَلَا تَصِحُّ اسْتِعَارَتُهَا لَهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمِلْكُ إذَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا نَسَبٌ ثُمَّ ادَّعَاهُ كَانَ النَّسَبُ آخِرَهُمَا وُجُودًا فَتَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بَيْنَ وَارِثَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَوْلَا أَنَّهُ صَارَ مُعْتَقًا بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي التَّمْلِيكِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا بُدَّ لِلْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ دُونَ الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ صِحَّةُ التَّكَلُّمِ وَهِيَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صَالِحًا لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ أَيْ إثْبَاتِ مَعْنًى بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ فَيُعْمَلُ بِمَجَازِهِ.

وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالُوا مِنْ اشْتِرَاطِ احْتِمَالِ الْبُنُوَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَاطِبَةً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشُّجَاعِ هَذَا أَسَدٌ اسْتِعَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّجَاعَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْهَيْكَلَ الْمَعْلُومَ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا أَسَدٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الشَّجَاعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَسَدِيَّةُ أَصْلًا فَكَذَا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْبُنُوَّةِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ الِابْنُ الْحَقِيقِيُّ وَاسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَيَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.

قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ) يَعْنِي أَنَّ التَّغَيُّرَ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَجَازِ لِلْعِبَارَةِ دُونَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِذَا نُقِلَ عَنْهُ وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَيَصِيرُ مَجَازًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ وَالتَّغَيُّرَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ وَزَعَمَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَحَلَّ الْمَجَازِ لَهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ يَكُونُ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الشُّجَاعِ فِي مَوْضُوعِهِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظٌ الْمَجَازِ وَهُوَ الْأَسَدُ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ فَأَمَّا الْحُكْمُ وَهُوَ إثْبَاتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>