فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ
ــ
[كشف الأسرار]
فِي شَرِيعَتِنَا لَا تَصَوُّرَ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا لَوْ ثَبَتَتْ عَقْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَمَّا انْتَسَخَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْحِلِّ أَصْلًا لَمْ يَصِرْ حَتَّى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عِنْدَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَهُنَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مَسُّهُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا.
وَمَا قَالَا: الْهِبَةُ تَعْمَلُ بِحَقِيقَتِهَا لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ مِلْكِ الطَّلَاقِ وَصِحَّةِ الْإِيلَاءِ وَعَدَمِ صِحَّةِ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَسَائِرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَتْ عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا لَمَلَكَ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الْمِلْكِ وَلَكَانَ الْعُقْرُ لَهُ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَلَمَلَكَ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْأَمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهَا عَامِلَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّ تَصَوُّرَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمَجَازِ وَلَمَّا رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَعَادَ ذِكْرَهُ فَقَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَعْنِي مُجِيبًا لِكَلَامِهِمَا هَذَا تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ أَيْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَكَانَ الْخَلَفِيَّةُ فِي التَّكَلُّمِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ لَمْ يَتَوَقَّفْ صِحَّتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةً نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى وَهُوَ اسْمُ كِتَابٍ لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إيجَابَ مَا وَرَاءِ الثَّلَاثِ وَاسْتِثْنَاءَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ إذْ لَا مُزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ فَكَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ وَيَقَعَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمُسْتَثْنَى صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبُ وَفَاطِمَةُ وَهِنْدُ أَوْ خَدِيجَةُ أَوْ قَالَ عَبْدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا وَيَزِيعًا وَفَرْقَدَ أَوْ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْعَبِيدِ غَيْرُهُمْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا أَيْ الْمَجَازُ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ صَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي أَوْ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِحُكْمِ حَقِيقَتِهِ أَيْ لِلَازِمِ مَوْضُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَيْ وَمِنْ لَوَازِمِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَجَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ إقْرَارًا بِهِ أَيْ بِالْعِتْقِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَعَتَقَ الْعَبْدُ فِي الْقَضَاءِ.
قَوْلُهُ (فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ) يَعْنِي لَمَّا صَارَ قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَا إنْشَاءً لِعِتْقٍ فِي الْحَالِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِعِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ صَرِيحًا كَاذِبًا وَكَلَامُ الشَّيْخِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِقْرَارِ كَاذِبًا وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ بِمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَقَالَ.
فَإِنْ قِيلَ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِإِنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِلْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إخْبَارُ الْإِنْشَاءِ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَهَذَا إقْرَارٌ وَلَيْسَ بِإِنْشَاءٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَبْطُلُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَحُكْمُ الْإِنْشَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ وَلَمْ يُوجَدْ إعْتَاقٌ مِنْ جِهَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute