وَاخْتَلَفَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَقَالُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ حَتَّى لَا يَعْتِقَ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِحَرْبِيٍّ انْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ لَمْ يَأْمَنْ حَتَّى يَنْزِلَ فَيَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ أَوْ وَأَنْتِ تُصَلِّينَ أَوْ مُصَلِّيَةٌ أَنَّهُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْحِلِّ حَتَّى إذَا نَوَى بِهَا وَاوَ الْحَالِ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالْمَرَضِ وَالصَّلَاةِ
ــ
[كشف الأسرار]
لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهَا لِمَعْنَى الْحَالِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: ٧٣] أَيْ وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. قِيلَ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ لَا تُفْتَحُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا وَأَمَّا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَمُتَقَدِّمٌ فَتْحُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: ٥٠] وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيمَ فَتْحِ بَابِ الضِّيَافَةِ عَلَى وُصُولِ الضَّيْفِ إكْرَامًا لَهُ وَتَأْخِيرَ فَتْحِ بَابِ الْعَذَابِ إلَى وُصُولِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ أَلْيَقُ بِالْكَرَمِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْوَاوِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا قَبْلُ وَجَوَابُ إذَا مَحْذُوفٌ أَيْ إذَا جَاءُوهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ إلَى قَوْلِهِ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: ٧٣] دَخَلُوهَا وَنَالُوا الْمُنَى وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّهُ فِي صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ بِحَذْفِهِ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ
قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) فَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوا الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوهَا لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ لَا غَيْرُ وَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوهَا لِلْعَطْفِ مُحْتَمِلًا لِلْحَالِ وَفِي بَعْضِهَا اخْتَلَفُوا فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لِحَرْبِيٍّ انْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ لَا يَأْمَنُ مَا لَمْ يَنْزِلْ جَعَلُوا الْوَاوَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْعَطْفُ هَهُنَا لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَالْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ وَبَيْنَهُمَا كَمَالُ الِانْقِطَاعِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ حُسْنِ الْعَطْفِ إذْ لَا بُدَّ لِحُسْنِهِ مِنْ نَوْعِ اتِّصَالٍ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهَا لِلْحَالِ وَلَمَّا صَارَتْ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَةً كَالشَّرْطِ تَعَلَّقَتْ الْجِزْيَةُ بِالْأَدَاءِ وَالْأَمَانُ بِالنُّزُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالرُّكُوبِ تَعَلُّقَهُ بِالدُّخُولِ.
وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ نَزَلْت فَأَنْتَ آمِنٌ هَذَا تَقْرِيرُ عَامَّةِ الْكُتُبِ فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْت عَكْسُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّ الْوَاوَ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتَ آمِنٌ لَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ وَانْزِلْ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِزْيَةُ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَالْأَمَانُ شَرْطًا لِلنُّزُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ إذَا نَوَى التَّعْلِيقَ كَانَ الْمَرَضُ شَرْطًا لِلطَّلَاقِ لِدُخُولِ الْوَاوِ فِيهِ لَا عَكْسُهُ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ الْجِزْيَةُ وَالْأَمَانُ سَابِقَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونَانِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِالْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ وَإِذَا انْتَفَى التَّعَلُّقُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاقِعًا فِي الْحَالِ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ كَقَوْلِهِ عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ أَيْ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: ٤] أَيْ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: ٨] حُمِلَ عَلَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا وَقَالَ رُؤْبَةُ:
وَمُهِمَّةٌ مُغْبَرَّةٌ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ
أَرَادَ كَأَنَّ لَوْنَ سَمَائِهِ مِنْ غَبْرَتِهَا أَرْضُهُ.
وَقَالَ آخَرُ:
يَمْشِي فَيَقْعَسُ أَوْ يَكُبُّ فَيَعْثِرُ
أَرَادَ أَوْ يَعْثِرُ فَيَكُبُّ وَقَالَ الْقُطَامِيُّ كَمَا طَيَّنْتَ بِالْفَدَنِ السَّيَاعَا أَيْ طَيَّنْتَ بِالسَّيَاعِ الْفَدَنَ. وَهُوَ الْقَصْرُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كُنْ حُرًّا وَأَنْتَ مُؤَدٍّ أَلْفًا وَكُنْ آمِنًا وَأَنْتَ نَازِلٌ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتَ آمِنٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ بِمَا دَخَلَ فِيهِ الْوَاوُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّنْجِيزُ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُتَكَلِّمِ تَنْجِيزُ الْأَدَاءِ أَوْ النُّزُولِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهُ وَلَوْ وُجِدَتْ الْجِزْيَةُ أَوْ الْأَمَانُ هَهُنَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَدَاءُ وَالنُّزُولُ وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْعَطْفِ