للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّا نَعْمَلُ بِحَقِيقَةِ مُوجَبِ الْأَمْرِ فَيُجْعَلُ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً بَعْدَ الْحِنْثِ وَرُوِيَ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فَحَمَلْنَا هَذَا عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهُوَ مُوجَبُ الْأَمْرِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَانَ الْمَجَازُ مُتَعَيِّنًا تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا صَحَّ بِأَنْ يُسْتَعَارَ ثُمَّ لِلْوَاوِ

ــ

[كشف الأسرار]

{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: ١٧] أَيْ وَكَانَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ إذْ الْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّتِهَا فَلَا يَكُونُ فَكُّ الرَّقَبَةِ وَالْإِطْعَامُ مُعْتَبَرَيْنِ قَبْلَهُ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الطَّهَارَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كَلِمَةَ التَّرَاخِي لِبَيَانِ تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَمَا أَنَّهَا لِبَيَانِ تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو.

وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ بِثُمَّ لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَنْ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لَا فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّابِقُ الْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ أَنَّهَا لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْوُجُودِ أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّ هَذَا لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: ٤٦] قَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ قَبْلَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ كَمَا هُوَ شَهِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ

قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مُقْتَضَاهَا وَنَتِيجَتُهَا وَهُوَ الْعِقَابُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ثُمَّ اللَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَقَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ اللَّهَ مُؤَدٍّ شَهَادَتَهُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُنْطِقُ جُلُودَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَوُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ قُلْنَا كَذَا.

وَلِجَوَازِ اسْتِعَارَةِ ثُمَّ لِلْوَاوِ قُلْنَا كَذَا إذَا عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» شَرَعَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَمَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» رَتَّبَ وَالتَّرْتِيبُ لِلْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ فَحَمَلْنَا ثُمَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّكْفِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ إذْ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورُ وَلَا تُعَارِضُهَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» لِأَنَّهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلَوْ صَحَّتْ كَانَ ثُمَّ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْوَاوِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّكْفِيرِ لِلْوُجُوبِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ فَإِنْ قِيلَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ.

وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَفِيمَا قُلْنَا عَكْسُهُ فَبِمَ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ الْيَمِينِ الْبِرُّ وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ فَحَمْلُ مَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَقْصُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَبِأَنَّ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَرْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ وَفِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُمَا حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّكْفِيرِ ثَبَتَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْمَالِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَحَقَّ وَفِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>