وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَجُزْ الْمُطْلَقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَا لِأَنَّ النَّصَّ نَفَاهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْإِثْبَاتَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا صِيغَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ وَمَا قُلْنَا عَمَلٌ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلِقِ مَعْنَى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ مِثْلُ التَّقْيِيدِ فَتَرْكُ الدَّلِيلِ إلَى غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ مُسْتَحِيلٌ
ــ
[كشف الأسرار]
لِقَوْلِهِ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا الْآيَةُ فَجَعَلَ الثَّانِيَةَ مُسْتَأْنَفَةً لَا صِفَةً لِأَشْيَاءَ ثُمَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُطْلَقِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَالسُّؤَالَ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَنْهِيٌّ بِهَذَا النَّصِّ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَاجِبًا فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمُقَيَّدِ لِنَعْرِفَ حُكْمَ الْمُطْلَقِ إقْدَامٌ عَلَى هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْإِبْهَامِ فِيمَا أَبْهَمَ اللَّهُ كَمَا أَنَّ فِي السُّؤَالِ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ عَمَّا هُوَ مُفَسَّرٌ أَوْ مُحْكَمٌ فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ مُمْكِنٌ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ نَوْعِ إبْهَامٍ إذْ السُّؤَالُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَعَمُّقًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ أَيْ أَطْلِقُوا مَا أَطْلَقَ اللَّهُ وَلَا تُقَيِّدُوا الْحُرْمَةَ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ بِالدُّخُولِ بِالْبَنَاتِ يُقَالُ فَرَسٌ بَهِيمٌ إذَا كَانَ مُطْلَقَ اللَّوْنِ أَيْ لَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ تَقْيِيدِ حُرْمَةِ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ وَهُوَ أَيْ الْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لِوُرُودِهَا مُطَلَّقَةً فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: ٢٣] قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُمُّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَبْهِمُوهَا أَيْ حَالَ تَحْرِيمِهَا عَنْ قَيْدِ الدُّخُولِ الثَّابِتِ فِي الرَّبِيبَةِ فَأَطْلِقُوهَا وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدِهِمْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ بِالْبِنْتِ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الْأُمِّ فَذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَبَرِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَيْدِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِفَوَاتِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ الْمُقَيَّدُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ بِالنَّفْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ.
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْمُقَيَّدِ لَا لِأَنَّ النَّصَّ أَيْ الْمُقَيَّدَ نَفَاهُ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ إنَّمَا لَمْ تَجُزْ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ كَفَّارَةً كَمَا لَمْ يَجُزْ تَحْرِيمُ النِّصْفِ وَذَبْحُ الشَّاةِ لَا لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ نَفْيُ جَوَازِهِ أَوْ الْكَفَّارَةُ فِي نَفْسِهَا وَقَدْرِهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا شَرْعًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الشَّرْعِ لِانْعِدَامِ كَفَّارَةٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ صِيغَةً يَعْنِي عِبَارَةً وَإِشَارَةً وَلَا دَلَالَةَ لِأَنَّ النَّفْيَ ضِدُّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ ضِدُّ مُوجَبِ النَّصِّ وَلَا اقْتِضَاءً لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ بِوَصْفٍ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّفْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ لَا يَخْتَلُّ الْكَلَامُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُوجِبٌ لِلنَّفْيِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَوْ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ مُقْتَصِرٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعَةِ فَمَا وَرَاءَهُ يَكُونُ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ أَيْ بِمُوجِبِهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلَقِ مَعْنًى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ أَيْ الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ نَفْيٌ لِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُطْلَقُ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ لِاحْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ تَرَجُّحٍ لِلْبَعْضِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرَكِ الَّذِي انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لَا بِالْبَيَانِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِإِطْلَاقِهَا إلَّا بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute