للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قُلْنَا: وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُضَافٌ إلَى إيجَابِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى حَدَثِ الْعَالَمِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا سَبَبٌ يُلَازِمُ الْوُجُوبَ

ــ

[كشف الأسرار]

الشَّمْسُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارُ كَمَا لَوْ قَالَ تَصَدَّقْ مِنْ مَالِي بِدِرْهَمٍ مُطْلَقًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالتَّكْرَارُ ثَابِتٌ هَاهُنَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَقْتَ هُوَ السَّبَبُ، وَأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَأَنَّ تَكَرُّرَهُ بِسَبَبِ تَكَرُّرِهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَسْبَابِ مِثْلَ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا. قَوْلُهُ (فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ) وَلَمَّا أَثْبَتَ الشَّيْخُ أَنَّ لِلْمَشْرُوعَاتِ أَسْبَابًا بَيَّنَ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَدَأَ بِبَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ أَيْ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُودِهِ وَبِوَحْدَانِيِّتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَبِأَسْمَائِهِ مِثْلُ الْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْحَكِيمِ وَسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْعُلَى. وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ وَالْأَسْمَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَاتِ يَعْنِي يُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ وَيُقِرُّ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مِثْلَ، وَأَنَّ لَهُ أَسْمَاءً كَامِلَةً أَيْ تَسَمِّيَاتٍ يَصِحُّ إطْلَاقُهَا عَلَى ذَاتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْعَالِمِ عَلَى زَيْدٍ مَثَلًا، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِالْوَاصِفِ وَوَصْفٌ لِلْمَوْصُوفِ، وَأَنَّ لَهُ جَلَّ جَلَالُهُ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً قَدِيمَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ، وَلَا غَيْرَهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، لَا كَمَا زَعَمَتْ الْمُجَسِّمَةُ أَنَّهُ جِسْمٌ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ حَادِثَةٌ.

وَلَا كَمَا ذَهَبَتْ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ، وَلَا كَمَا ظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ قَدِيمٌ وَبَعْضَهَا حَادِثٌ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. مُضَافٌ إلَى إيجَابِهِ أَيْ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْإِيجَابَاتِ. لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ مَنْسُوبٌ إلَى حَدَثِ الْعَالَمِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ غَيْبٌ عَنَّا فَنُسِبَ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْإِيجَابِ بِوَاسِطَتِهِ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْنَا.، وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ إذْ لَوْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ رُبَّمَا أَنْكَرَ الْمُعَانِدُ وُجُوبَهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ فَوُضِعَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَقَطْعًا لِشُبْهَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ حَدَثُ الْعَالَمِ سَبَبًا رُبَّمَا احْتَجُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالُوا مَا ثَبَتَ لَنَا دَلِيلُ الْإِيمَانِ بِك فَلِذَلِكَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَجُعِلَ الْعَالَمُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ قَطْعًا لِلِجَاجِهِمْ.

ثُمَّ حَدَثُ الْعَالَمِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصَّنْعَةِ وَالْحُدُوثِ، وَهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ وَالْمُحْدِثِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى أَزَلِهِ مُحْدِثًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهًا عَنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَآثَارُ الْمَشْيِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، فَهَذَا الْهَيْكَلُ الْعَلَوِيُّ وَالْمَرْكَزُ السُّفْلِيُّ أَمَا يَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ. وَهَذَا السَّبَبُ يُلَازِمُ الْوُجُوبَ يَعْنِي لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْوُجُوبِ، وَلَا الْوُجُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا أَنَّهُ مُوجِبٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْفِعْلِ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ إذْ الْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ.، وَلَا وُجُودَ لِمَنْ هُوَ أَهْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَى مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ سُنَّتَهُ إلَّا وَالسَّبَبُ يُلَازِمُهُ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِلْمُحْدِثِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحْدِثٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَالْإِنْسَانُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَيْ بِخَلْقِ الْعَالَمِ أَوْ بِالتَّكْلِيفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ مِمَّنْ يَجِبُ الْإِيمَانُ عَلَيْهِمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَالِمٌ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>