فَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَلْزَمُ السَّامِعَ مِنْ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِأُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ وَالسَّمَاعُ بِالْتِزَامِهِ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ فِي الدِّينِ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بِمِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ
ــ
[كشف الأسرار]
تَوَقَّفَتْ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ أَمَّا الْأَعْمَى فَلِأَنَّ الْعَمَى إنَّمَا مَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَحْتَاجُ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا وَإِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فِيمَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَصِيرِ بِالْمُعَايَنَةِ وَمِنْ الْأَعْمَى بِالِاسْتِدْلَالِ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي جِنْسِ الشُّهُودِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ فَكَانَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فِيهِ سَوَاءً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَمْيِيزٌ زَائِدٌ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الشَّهَادَةِ الْوِلَايَةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى، وَالشَّهَادَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَبِالرِّقِّ تَنْعَدِمُ الْوِلَايَةُ أَصْلًا وَبِالْأُنُوثَةِ تُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ صَلَحَتْ مَالِكَةً لِلْمَالِ لَا تَصْلُحُ مَالِكَةً فِي النِّكَاحِ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَا انْتَقَصَتْ وِلَايَةُ الشَّهَادَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَنْعَدِمْ حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَلِفَوَاتِ الْوِلَايَةِ أَوْ لِنُقْصَانِهَا رُدَّتْ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا هَذَا أَيْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَكِنَّ السَّامِعَ قَدْ الْتَزَمَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ شَابَهُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ عِنْدَ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ بِالْتِزَامِهِ وَتَقَلُّدِهِ هَذِهِ الْأَمَانَةَ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ أَيْ الشَّاهِدِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّاهِدِ يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ دُونَ الْقَاضِي فَصَارَ تَقَلُّدُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي أَيْ لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَلْ يَلْزَمُهُ بِتَقَلُّدِهِ أَمَانَةَ الْقَضَاءِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي الْكَافِرِ وَإِلَى إنْكَارِهِ وَإِلَى شَهَادَتِهِ عَلَى كَافِرٍ مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِمُوجِبِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَلْ فِيهِ بَيَانُ صِفَةٍ تَتَأَدَّى بِهَا الصَّلَاةُ إذَا أَرَادَهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا خِيَاطَةَ إلَّا بِالْإِبْرَةِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْخَبَرِ يَلْزَمُ الْمُخْبَرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي مِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْتِزَامٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ.
بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ الْوِلَايَةِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَنْعُ كَوْنِ الْخَبَرِ مُلْزِمًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي تَسْلِيمُ ذَلِكَ وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَقَدْ ثَبَتَ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ الْبَصَرِ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُمْ مَقْبُولَةٌ وَلَمْ يَتَفَحَّصْ أَحَدٌ أَنَّهُمْ رَوَوْا قَبْلَ الْعَمَى أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُنَّ خُصُوصًا إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute