وَمَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ التَّكَلُّمِ إيجَابًا فِي بَعْضِ الْجُمْلَةِ أَصْلًا وَالتَّعْلِيقُ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَصْلًا وَهُوَ الْإِيجَابُ وَيَبْقَى الثَّانِي وَهُوَ الِاحْتِمَالُ فَلِذَلِكَ كَانَا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مِنْ بَابِ التَّغْيِيرِ دُونَ التَّبْدِيلِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَلَكِنْ بِشَرْطِ لُحُوقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ فَكَانَ الْتِحَاقُهُ بِهِ بَيَانَ أَنَّ الْمُرَادَ مُحْتَمَلُهُ وَالصَّحِيحُ فِي بَيَانِ الِاحْتِمَالِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ السَّابِقَ غَيْرُ مُوجِبٍ كُلَّ الْأَلْفِ كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُوجِبًا فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ وُجِدَ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا احْتَمَلَ صَدْرُ الْكَلَامِ هَذَا وَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ ذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ بَيَانَ التَّغْيِيرِ لَا تَغْيِيرًا مَحْضًا.
وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَسْمِيَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ بَيَانًا مَجَازٌ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً يُبْطِلُ الْكَلَامَ فِي حَقِّ الْمِائَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ اسْمٌ لِعَشْرِ مِئِينَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُبْطِلُ كَوْنَهُ إيقَاعًا وَيُصَيِّرُهُ يَمِينًا. إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَبْطُلُ بَعْضُ الْكَلَامِ وَفِي التَّعْلِيقِ يَبْطُلُ أَصْلُهُ بِانْقِلَابِهِ يَمِينًا وَالْإِبْطَالُ لَا يَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْأَلْفُ ظَاهِرٌ فِي عَشْرِ مِئِينَ وَأَنْتِ طَالِقٌ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ إيقَاعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إظْهَارُهُمَا حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا التَّعْلِيقُ إظْهَارًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَ إبْطَالًا وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ يَحْلِفُ وَلَا يُطْلِقُ
. قَوْلُهُ (وَمَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ) فَرَّقَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ فَجَعَلَا الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ التَّعْلِيقُ تَبْدِيلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ وَاسْتِقْرَارُهُ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ فَبِذِكْرِ الشَّرْطِ يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ تَامَّةٍ لِلْحُكْمِ قَبْلَ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْعِتْقِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ وَأَنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ إنَّمَا التَّبْدِيلُ أَنْ يَخْرُجَ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أَصْلًا فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ مَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي التَّغْيِيرِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْكَلَامِ عَنْ الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي بَعْضِ الْجُمْلَةِ أَصْلًا حَتَّى لَا يَبْقَى مُوجِبًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ فِي الْحَالِ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ مُوجِبًا لَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ وَالتَّعْلِيقُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ فِي الْحَالِ وَلَا يَمْنَعُ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِانْعِقَادِهِ عِلَّةً فِي ثَانِي الْحَالِ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَبْقَى الثَّانِي وَهُوَ الِاحْتِمَالُ أَيْ احْتِمَالُ صَيْرُورَتِهِ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ فَلِذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ كَانَا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مِنْ بَابِ التَّغْيِيرِ دُونَ التَّبْدِيلِ فَإِنَّ التَّبْدِيلَ هُوَ النَّسْخُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: ١٠١] وَأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ إذْ النَّسْخُ رَفْعٌ بَعْدَ الْوُجُودِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِمَا وَفِي التَّحْقِيقِ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى.
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ وَتَأْخِيرَهُ عَنْهُ جَائِزَانِ وَتَقْدِيمَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَالَ طَلَّقْتُ إلَّا زَيْنَبَ جَمِيعَ نِسَائِي أَوْ أَعْتَقْتُ إلَّا سَالِمًا جَمِيعَ عَبْدِي أَوْ قَالَ إلَّا زَيْنَبَ جَمِيعَ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ إلَّا سَالِمًا جَمِيعُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَطْلُقُ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَيَعْتِقُ جَمِيعُ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ جَعْلُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَصْرُوفًا عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي دَخَلَ فِيهِ سَائِرُهُ فَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَبَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute