وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ.
ــ
[كشف الأسرار]
وَبِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ النَّفْيِ حَيْثُ يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَالَ مَا أَعْتَقْتُ إلَّا سَالِمًا أَحَدًا مِنْ عَبِيدِي أَوْ مَا طَلَّقْت إلَّا عَائِشَةَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِي يَعْتِقُ سَالِمٌ وَتَطْلُقُ عَائِشَةُ دُونَ غَيْرِهِمَا لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ حَذْفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي النَّفْيِ جَائِزٌ وَكَانَ الْمُسْتَثْنَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ قَبْلَ الْمُبْدَلِ
. قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ التَّعْلِيقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّعْلِيقِ، وَهَذَا بَيَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي تَعْرِيفِهِ وَشُرُوطِهِ.
ثُمَّ فِي تَقْدِيرِهِ وَتَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وَالْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْمُنْقَطِعِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ كَمَا فِي الْمُتَّصِلِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إمَّا بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْعَيْنِ بَيْنَ مَفْهُومَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ إخْرَاجٌ، وَخَاصَّةُ الْمُنْقَطِعِ مُخَالَفَةٌ مِنْ غَيْرِ إخْرَاجٍ فَلَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَصْلُحُ جَعْلُ اللَّفْظِ لَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مُشْتَرَكًا إذْ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ مُسَمَّاهُ وَاللَّفْظُ إذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَارِفٍ يَصْرِفُهُ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا صَحَّ بِإِضْمَارٍ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: ٣١] فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ إبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ إلَّا إبْلِيسَ أَوْ فِي الْمُسْتَثْنَى كَمَا فِي قَوْلِك لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا دِينَارًا أَيْ إلَّا مِقْدَارَ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِتَأْوِيلِ إلَّا بِجَعْلِهِ بِمَعْنَى لَكِنْ فَكَانَ مَجَازًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ سَبْقُ الْفَهْمِ إلَى الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَتَوَقُّفُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ عَلَى قَرِينَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَنَّيْتُ عَنَانَ الْفَرَسِ إذَا عَطَفْتُهُ وَصَرَفْتُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عَطْفَ وَلَا صَرْفَ إلَّا فِي الْمُتَّصِلِ إذْ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي الْمُنْقَطِعِ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ.
، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَشْيَاءِ مَعْنًى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْأَغْلَبِ وَهُوَ الْمَجَازُ خُصُوصًا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْهَامِ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَخْلُو عَنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمُرَادِ بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ، ثُمَّ حَدُّهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بِإِلَّا غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ الصِّفَةِ عَنْ إلَّا الَّتِي هِيَ صِفَةٌ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَابِعَةً لِجَمْعٍ مُنَكَّرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ أَيْ لِجَمْعٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى لَوْ سَكَتَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢] وَبِقَوْلِهِ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا، عَنْ الْمُخَالَفَةِ بِغَيْرِهَا مِثْلِ قَوْلِهِ جَاءَنِي الْقَوْمُ وَلَمْ يَجِئْ زَيْدٌ لَا عَمْرٌو وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْتِثْنَاءٍ وَعِنْدَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالْمَجَازِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْرِجٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ فَتَعَذَّرَ جَمْعُهُمَا بِحَدٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ فَصْلُ أَحَدِهِمَا مَفْقُودٌ فِي الْآخَرِ يَسْتَحِيلُ جَمْعُهُمَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ لِلْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ هُوَ الْمَذْكُورُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا مُخْرِجًا أَوْ غَيْرَ مُخْرِجٍ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعَذُّرِ قِيلَ فِي الْمُنْقَطِعِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بِإِلَّا غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ إخْرَاجٍ، وَفِي الْمُتَّصِلِ هُوَ إخْرَاجٌ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَقْرُبُ مِنْهُ عِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُتَّصِلِ هُوَ لَفْظُ أُخْرِجَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute