للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَا سَبَقَ

ــ

[كشف الأسرار]

وَفِي الْمُنْقَطِعِ هُوَ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُرَدْ بِهِ إخْرَاجٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَوْ قُلْتَ جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَزَيْدٌ لَيْسَ مِنْ الْقَوْمِ كَانَ مُنْقَطِعًا.

وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ قَوْلٌ ذُو صِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بِهِ لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا ذُو صِيَغٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ قَوْلِهِ رَأَيْت الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ أَرَ زَيْدًا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تُسَمِّيهِ اسْتِثْنَاءً وَإِنْ أَفَادَ مَا يُفِيدُ قَوْلَنَا إلَّا زَيْدًا، وَقِيلَ هُوَ لَفْظٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةٍ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ

أَمَّا شُرُوطُهُ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا الِاتِّصَالُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا فِي الْكَلَامِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِك رَأَيْتُ الْقَوْمَ إلَّا زَيْدًا وَزَيْدٌ مِنْهُمْ وَرَأَيْت عُمَرًا إلَّا وَجْهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً لَا لِصِحَّتِهِ.

وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا كَانَ رُجُوعًا لَا اسْتِثْنَاءً كَذَا قِيلَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ فِيمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَاطِلٌ أَيْضًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَفِي اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ شَيْءٍ بِجَعَلِ الْكَلَامِ عِبَارَةً عَنْهُ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي وَالْأَكْثَرِ نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً أَوْ إلَّا سِتَّةً إلَى تِسْعَةٍ فَذَهَبَتْ الْعَامَّةُ إلَى جَوَازِهِمَا وَذَهَبَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إلَى مَنْعِهِمَا وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ إلَى الْمَنْعِ فِي الْأَكْثَرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَقْبِحُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ وَتَسْتَهْجِنُ قَوْلَ الْقَائِلِ رَأَيْت أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَتُهُمْ وَاسْتِثْقَالُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَاحْتَجَّتْ الْعَامَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: ٤٢] وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: ١٠٣] {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: ١٧] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: ١] فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: ٢] {نِصْفَهُ} [المزمل: ٣] ، وَلَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِأَقَلَّ وَقَوْلُهُمْ هُوَ مُسْتَقْبَحٌ مَمْنُوعٌ بَلْ اسْتِثْقَالٌ وَلَيْسَ بِاسْتِقْبَاحٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَالِاسْتِقْبَاحُ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تُسْعَ سُدُسِ رُبُعِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقْبَاحِ يَصِحُّ.

، وَأَمَّا بَيَانُ مُوجِبِهِ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ أَيْ مَعَ حُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَنْعَدِمُ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَثْنَى لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ مَعَ صُورَةِ التَّكَلُّمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ فِيمَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْعَدِمُ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ لَا لِأَنَّ الْغَايَةَ تُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوجِبُهُ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ كَامْتِنَاعِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَامِّ فِيمَا خُصَّ مِنْهُ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ صُورَةً وَهُوَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا بَلْ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لِمَانِعٍ وَهُوَ التَّعْلِيقُ أَوْ عَدَمُ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ وَعِنْدَنَا التَّعْلِيقُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا وَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>