فَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَصَحَّ النَّسْخُ بَعْدَ وُجُودِ عَقْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ تَمَكُّنٌ مِنْ الْفِعْلِ
ــ
[كشف الأسرار]
الشَّمْسِ بِطَهَارَةٍ ثُمَّ عِنْدَ الزَّوَالِ نَهَى عَنْ أَدَائِهِمَا عِنْدَ الْغُرُوبِ بِطَهَارَةٍ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلًا فِعْلًا وَاحِدًا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ صَدَرَ عَنْ مُكَلِّفٍ وَاحِدٍ إلَى مُكَلَّفٍ وَاحِدٍ وَفِي تَنَاوُلِ النَّهْيِ لِمَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنَاوَلَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِفِعْلِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ حَالِ الْمَأْمُورِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ حِينَ أَمَرَ بِهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ بِالْأَمْرِ إنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمَأْمُورِ اتِّحَادَ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَا قَبْلَهُ إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ قَالُوا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ إنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِفَادَةِ وَقَدْ أَفَادَ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَيَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ بَدَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ النَّهْيُ تَنَاوَلَ عَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ الْفِعْلَ فَلَوْ جَوَّزْنَا نَسْخَهُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ لَمْ يَبْقَ لِلْأَمْرِ فَائِدَةٌ فِيمَا وُضِعَ الْأَمْرُ لَهُ، فَأَمَّا اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِمَوْضُوعٍ لَهُمَا فَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: افْعَلُوا لَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ اعْزِمُوا وَاعْتَقِدُوا بِوَجْهٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ لَا غَيْرُ فَكَانَ النَّسْخُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ مُؤَدِّيًا إلَى سُقُوطِ الْفَائِدَةِ عَنْ الْأَمْرِ وَإِلَى الْبَدَاءِ وَالْحُجَّةُ لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ السُّنَّةُ، وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَمَّا السُّنَّةُ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ثُمَّ نُسِخَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ» وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَدَلَّ وُقُوعُهُ عَلَى الْجَوَازِ وَزِيَادَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا خَبَرٌ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَ الْمِعْرَاجَ أَصْلًا وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُونَ لَمْ يُرْوَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ذِكْرُ نَسْخِ خَمْسِينَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ وَذَلِكَ شَيْءٌ زَادَهُ الْقُصَّاصُ فِيهِ كَمَا زَادُوا غَيْرَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لِلْأُمَّةِ لَا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةً وَلَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي بَيَّنَّا وَمِنْ شَرْطِ قَبُولِ الْخَبَرِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لَهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا بِطَرِيقِ الْعَزْمِ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ رَسُولِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْخَمْسَ تَقَرَّرَ الْفَرْضُ قُلْنَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّوَاتُرِ فَلَا وَجْهَ إلَى إنْكَارِهِ وَأَهْلُ النَّقْلِ وَنَاقِدُوا الْحَدِيثِ كَمَا رَوَوْا أَصْلَ الْمِعْرَاجِ رَوَوْا فَرْضَ خَمْسِينَ صَلَاةً وَنَسْخَهَا بِخَمْسٍ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْأَحَادِيثِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ كَمَا وَجَبَ قَبُولُ أَصْلِ الْمِعْرَاجِ وَلَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مِنْ زِيَادَاتِ الْقُصَّاصِ قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَلَيْسَ إنْكَارُ الْقَدَرِيَّةِ الْمِعْرَاجَ إلَّا كَإِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَأَخْبَارِ الشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالْخَبَرُ صَحِيحٌ لَا يُرَدُّ بِطَعْنِ مُخَالَفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَمَا لَمْ يُرَدَّ خَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِطَعْنِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِيهِ وَكَمَا لَمْ يُرَدَّ خَبَرُ الرَّجْمِ بِإِنْكَارِ الْخَوَارِجِ الرَّجْمَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
وَقَوْلُهُمْ لَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْأَصْلُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَهَرَ فِي الِانْتِهَاءِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْقَبُولِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute