وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ وَالتَّقْيِيدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ نَصٍّ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِأَنَّ الْمَخْصُوصَ إذَا لَمْ يَبْقَ مُرَادًا بَقِيَ الْبَاقِي ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّظْمِ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَإِذَا ثَبَتَ قَيْدُ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ الْمُؤْمِنَةُ ثَابِتَةً بِذَلِكَ النَّصِّ الْأَوَّلِ بِنَظْمِهِ بَلْ بِهَذَا الْقَيْدِ فَيَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ لِلْإِخْرَاجِ لَا لِلْإِثْبَاتِ.
ــ
[كشف الأسرار]
الْحَدِّ لَيْسَ بِحَدٍّ.
وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَعَلِّقٌ بِالْقَذْفِ الَّذِي هُوَ فِسْقٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ فَيَثْبُتُ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوْلَى قَدْ انْتَهَى وَإِنَّ هَذَا أَيْ التَّقْيِيدَ فِي الْمُطْلَقِ نَسْخٌ لِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِ جُمْلَتِهِ أَيْ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِ أَصْلِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّقْيِيدَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ عَلَى مَا زَعَمَ الْخَصْمُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ بِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ النَّظْمُ بِظَاهِرِهِ لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ.
وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ أَيْ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْقَيْدِ بِوَجْهٍ كَاسْمِ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمُتَعَرِّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ تَصَرُّفًا فِيمَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا أَلَا تَرَى تَوْضِيحَ قَوْلِهِ: وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ يَعْنِي الْإِطْلَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ أَيْ عَدَمِ الْقَيْدِ، وَالتَّقْيِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ أَيْ وُجُودُ الْقَيْدِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْلَاقُ التَّقْيِيدَ مَعَ تَنَافِيهِمَا، وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ إثْبَاتَ نَصٍّ نَاسِخٍ لِلْإِطْلَاقِ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَصْمَ لَمَّا أَثْبَتَ التَّقْيِيدَ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ بِالْقِيَاسِ بِأَنْ قَالَ: تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَكَانَ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ «مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ جَاءَ بِجَارِيَةٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: عَلِيٌّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَامْتِحَانُهَا بِالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُؤْمِنَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدُ كَانَ هَذَا مِنْهُ إثْبَاتَ نَصٍّ مُقَيِّدٍ لِلرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَفَّارَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَفَّارَتَيْنِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: ٩٢] كَمَا قَالَ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَخَرَجَ الْمَخْصُوصُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَقِيَ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَهُ ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّظْمِ بِعَيْنِهِ كَلَفْظِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خُصَّ مِنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ بَقِيَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِمْ ثَابِتًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ حَتَّى وَجَبَ قَتْلُ مَنْ لَا أَمَانَ لَهُ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ فَلَمْ يَكُنْ أَيْ التَّخْصِيصُ نَسْخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ هَذَا الْحُكْمِ الثَّابِتِ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَإِذَا ثَبَتَ قَيْدُ إيمَانٍ فِي الرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ وَخَرَجَتْ الْكَافِرَةُ مِنْ الْجُمْلَةِ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الْمُؤْمِنَةِ ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّصِّ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ بِنَظْمِهِ أَيْ بِصِيغَتِهِ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِوَجْهٍ بَلْ يَكُونُ ثَابِتًا بِهَذَا الْقَيْدِ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ لِإِثْبَاتِ ابْتِدَاءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ ثَابِتًا لَوْلَا التَّخْصِيصُ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَلَا تَشَابُهَ بَيْنَ إخْرَاجِ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَسْخٌ وَلَيْسَ بِتَخْصِيصٍ.
وَعِبَارَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعُمُومِ إذَا أُخِصَّ مِنْهُ بَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ نَفْسِهِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا إذَا بَقِيَ مِنْ الْحُكْمِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ وَمَتَى زِيدَتْ لَمْ يَبْقَ لِلنَّصِّ الْأَوَّلِ حُكْمٌ، فَإِنَّ نَصَّ الزِّنَا جَعَلَ الْجَلْدَ حَدًّا وَلَا يَبْقَى حَدٌّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّفْيِ حَدًّا مَعَهُ وَآيَةُ الْكَفَّارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute