ومن الجدير بالذكر أن القومية كانت في نشأتها لا يرمي أهلها إلّا إلى الخلاص من قبضة رجال الدين وتنفس الصعداء من الأغلال التي كانت عليهم, ولكن ما أن تَمَّ لهم ذلك الخلاص المنشود حتى انتقلوا نقلة أخرى فصاروا لا يقنعون بذلك الخلاص, إنما تطلّعوا إلى ظلم الآخرين والبغي عليهم واستعمار الضعفاء من الناس واستعبادهم, وحصل من وراء ذلك شر عظيم وفتن عريضة وحروب, ثم انقلب السحر على الساحر فأصبحوا في دوامة القومية التي لا تعقل ولا ترحم, ونبغت قرون الشر في رأس كل فريق من القوميين, كلٌّ ينوح على ليلاه, وكل فتاة بأبيها معجبة, فانتعش بينهم فنّ المفاخرات لضرورة الحاجة إليه في ظل القومية التي لم يقم بناؤها في الأساس إلّا على هذا المسلك البغيض في بداية تكوينها في أوروبا.
وبعد أن سار ركب القومية في أوروبا يحطّم بعضه بعضًا كثرت الحروب بينهم نتيجة التعصبات القومية الشعوبية الهوجاء عاد الأسد إلى عرينه, فقام مفكروهم وقادتهم بالدعوة الجادة إلى نبذ القومية وأنها رجعية وليست تقدمية حضارية ويجب نبذها, وإنها تمثل أفكار "هتلر" النازي حين قسَّم العالم على أساس عرقي أفضلهم ألمانيا.
ولأن مسلك التقدم والحضارة لا يتماشى مع مسالك القومية الضيقة, فلفظتها أوروبا لتقبع في أيدي المخادعين والماكرين من النصارى العرب وغيرهم؛ ليتموا حاجة في نفس يعقوب بعد أن بيتوا النية لحرب الإسلام, كما سنذكر ذلك في موضعه.