ومن الجدير بالذكر أن دعوى الوطنية حين ظهرت في أوروبا ما كان لها وهي دعوى جاهلية أن تؤلف بين قلوب الأوروبيين برغم تلك الأوضاع, فقامت الحروب الشرسة بينهم, وسفكت دماء لا يعلم عددها إلّا الله تعالى, وكل تلك الحروب إنما كان يراد من ورائها السيطرة وبسط النفوذ, وهي حروب كثيرة وقعت بين فرنسا والإنجليز والإيطاليون وغيرهم في مَدٍّ وجَزْرٍ, استغرق وقتًا طويلًا وقفت أمامها القومية والوطنية ذليلتان.
لقد جاءت الوطنية على غرار خبث القومية, ولم يكن تصدير أوروبا الفكرة الوطنية إلّا وسيلة من وسائلهم الكثيرة لغزو العالم كله, وخصوصًا العالم الإسلامي, وتشتيته وتمزيق وحدته؛ ليسهل عليهم إذلال تلك الشعوب حينما تنقطع فيما بينهم روابط العقيدة, وتحل محلها روابط الجاهلية من قومية ووطنية شعوبية, ويصبحون فريسة الأفكار الخادعة, ويتخلَّون عن مصدر عزهم وقوتهم في الإسلام, وقد عرفوا أن إحلال الوطنية محلّ الجهاد الإسلامي بخصوصه هو أقرب الطرق إلى تشرذم المسلمين, وبالتالي يكون جهاد المسلمين لأعدائهم إنما هو لأجل الوطن لا لشيء آخر, فيتحول الجهاد من كونه لأجل نشر الإسلام إلى حركات ثورات وطنية لا تفرِّق بين الدين وعدم الدين, بل ولا تدعو إلى الدين الإسلامي ولا إلى نشر تعاليمه, ولا يقاتلون أعداء الإسلام لأجل الإسلام, بل لأجل أن يتركوا لهم بلادهم وأوطانهم لا غير, ومن السهل على أعداء الإسلام أن يعِدُوا المسلمين ويمنوهم بتركهم أوطانهم؛ إذ أن الطلب في هذا أسهل من طلب الإسلام أو الجزية عن يد وهم صاغرون أو القتال كما هو شعار الإسلام, فإذا صارت المفاوضات سياسية محضة فالخطب هيّن, والوعود والكذب والاحتيال أمر مشروع عند الكفار ضد الإسلام والمسلمين, ولا يصعب عليهم إخلاف الوعود والاعتذارات