والانقياد التام -حتى وإن كان يبدو أنه مقبول في الظاهر- فإن انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمور والمخدرات واتساع نطاق الجرمية وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسي كلها دلائل صارخة على عدم الرضى بتلك الحياة البيهمية المادية, فلو كان الإنسان لا قيم له ثابتة -كما قرره الملاحدة- لكانت تلك الحياة لا تقدم ولا تؤخر من نفسيته, بل يعيش في أي ظرف سعيدًا مطمئنًا كما تعيش البهائم التي لا تهتم إلّا بالمادة وليس لها سلوك الإنسان, وهذا يدل على أن ما زعمه الملاحة -كما تقدَّم- من أنّ شدة التدين وسيطرة الأدب في الأسرة الزراعية, وكذلك الحفاظ على الأعراض, والاهتمام بالعفة, وتنظيم الحياة الجنسية, والتعاون بين أفراد الأسر, إنما كان سببه تلك الحالة الاقتصادية في المجتمع الزراعي إن هو إلّا كذب محض ومغالطة للنفس وسلب لقيمها الرفيعة التي منحها الله إياها, وما يستدل به الملاحدة من أن الناس في المجتمع الصناعي أصبحوا لا يعيرون الأخلاق والدين والترابط والعفّة بالًا بسبب التطور الاقتصادي, هو في حقيقته كذب ووضع شاذ غير مرضي عنه ومغالطة, وإنما السبب الأكبر في ذلك هو نجاح المخطط الشرير لإشاعة الفاحشة وتهوين الجريمة, وسلب الجوييم قيمهم التي يعتزون بها, ويفتخرون بإنسانيتهم فيها, والدليل هو ما سبق من حنين أصحاب الحياة البهيمية إلى العودة للأخلاق الفاضلة, والرغبة في محاربة الجريمة, وقد نصح كُتَّابُهم وزعماؤهم وحذَّورا مجتمعاتهم من مغَبَّة تملك الحياة السائبة التي تهوي بهم إلى النهاية السحيقة بسرعة مذهلة، فلو أنَّ الإنسان لا قيم له لما أحس أولئك بأوضاعهم الشنيعة ولعاشوا دون اي نكير وهذا يدل على كذب الزعم الشيوعي أن الإنسان لا قيم له ولا قيمة ولأخلاقه وسلوكه إلّا من خلال الأوضاع الاقتصادية والسلوك الناتج عنها.