وجود الإنسان على الأرض في نواحي الرغبات والمظاهر, وأنه لا يتغير بسبب المادة, بل الذي يتغيّر فيه هو جانب السلوك, فمثلًا يتغيِّر فيه نوع العبادة التي يتعبَّد بها ونوع التشريع الذي ينظم حياته, هل هو التشريع والعبادة الجاهلية؟ أم هو التشريع والعبادة الإلهية؟ فهذا هو الذي يحدث فعلًا تغييره في حياة الإنسان, سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا, مزارعًا أم صانعًا, أو في أي حالة من الحالات, فهذه يغيرها الإنسان فعلًا؛ فالتغيرات المادية والاقتصادية إنما تغيّر الصورة ولكنها لا تغير الجوهر والحقيقة الثابتة للإنسان.
إن التغيير الشددي يأتي أولًا من داخل النفس, فالغضب والثورة في وجه الظلم والرحمة والحب والحزن ليس هو نتيجة حتمية لتغيّر المادة من طور إلى طور, وإنما سبب ذلك هو تلك الصفات الأصيلة في النفس: صفة حب العدل والحق والنفرة عن اللظم والظالمين, وكذا اللين والشدة وغيرهما هي صفات ميَّزَ الله بها الإنسان وفطره عليها, ليس سبب ذلك ما ذهب إليه الملاحدة في تفسيرهم الماديّ للتاريخ، والأدلة كثيرة على أصالة الصفات الإنسانية في الإنسان, وأن التغير لم يكن سببه المادة فقط كما زعم الملاحدة.
ومن الأدلة على فساد تعليل الملاحدة أن الإنسان حينما يأتي ما يخالف فطرته وإنسانيته يبدو عليه القلق والاضطراب وعلامات التذمُّر المعبِّرة عن كراهته لأي وضع يفرض عليه أو لا ينسجم مع رغبته, وحال الناس في أوروبا وانفلاتهم في كل اتجاه وانغماسهم في كل رذيلة -وهو وضع يخالف فطرة الإنسان وأصالته الأخلاقية- لم يُقَابَل ذلك الوضع البهيمي بالترحاب