يريدونه وينتزعونه من قلوب الناس انتزاعًا أو يثبتونه فورًا, وإنما يمهدون له بطرق كثيرة وفي خط مدروسة مبيَّتة, إلى أن تتبناه الجماهير من الناس, حتى أصبح وكأنَّه أمر فطري مسلَّم لا يجوز رده أو الشك فيه١.
ومن العجيب أن تتوّج تلك المكائد كلها بأنها نابعة عن إرادة الشعب واختياره, بينما يكون عامَّة الشعب -إلّا النزر اليسير- في بعد تامٍّ عن حقيقة ما يجري, وأنَّى لرجل يفكر بلقمة العيش فقط فلا يجدها إلّا بصعوبة بالغة, أو لرجل يفكر في ما حوله من الملهيات المتأثرة أمامه في كل اتجاه, أنَّى له أن يدرك الغايات البعيدة لأصحاب الخطط البارعة.
نعم, أنَّى لمثل هؤلاء أن يفكروا بعمقٍ ليصلوا إلى معرفة حقائق الأمور, ومعرفة مَنْ الذي يسيِّرُ هذه الجماهير الصاحبة, ومعرفة ما هي المكاسب التي ستعود عليهم من جرَّاء ذلك, وما هو دور أصحاب التوجيه من خلف الستار في تلك القضايا, إنهم بطبيعة الحال لا يجدون الوقت الكافي للتفكير حتى من كان منهم أهلًا لذلك, وذلك بسبب ملأ فراغ وقت الجميع في آنٍ واحد مَنْ كان مشتغلًا بالكدِّ والجد, ومن كان مشتغلًا باللهو والفجور, فكل شخص يمشي مكبًّا على وجهه لا يفكر إلّا في نفسه, وبالتالي يجد أصحاب الكواليس الفرص الكثيرة للتأثير في الشعوب وفي اتجاهاتهم وسهولة قيادتهم, وما دام هؤلاء المنتفعون قد فقدوا الرحمة والإحساس بالآخرين, ولا توجد مخافة الله ومراقبته الكافية فيهم, فأي مكاسب سيحصل عليها الغوغاء, وأيّ تفكير
١ وقد ضرب الأستاذ محمد قطب أمثلة بتوسّع تبيِّن ذلك في كتابه "مذاهب فكرية معاصرة" ص٢٠٦.