هكذا صوروا الأمور لشعوبهم, ولكن يبقى السؤال الذي غاب جوابه, وخفي على عامَّة شعوبهم, وهو من أين تأتي هذه الأصوات, ومن أين تاتي هذه التوجيهات الفكرية التي تتلقَّفها الشعوب فتثور أو تهدأ بفعل تأثيرها, لقد غاب عن الكثيرين أنَّ الذين يوجِّهون الشعوب هم السلطة العليا التي تتظاهر ببعدها عن التدخل في إرادة الشعب واختياره، نعم, هم الذين يوجّهونهم كما يوجّه السائق سيارته إلى الجهة التي يريدها، وهذا التوجيه يتمُّ عبر الوسائل الكثيرة التي تملكها السلطة العليا من صحافة وإذاعة مرئية ومسموعة, ومن مفكرين يعملون لحسابها, ومن دعايات تصنع وتنشر بمعرفتها, ومعلوم أن تلك الوسائل كلها تقع تحت إشراف السلطة العليا, إمَّا بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر, فإذا كان القائمون على تلك الوسائل من موظفي الدولة فالأمر واضح, وإذا كانوا مستقلين فإنهم لا يستطيعون الاستقلال التامِّ بها إلّا بمساعدة الدولة لهم وحمايتها لهم، ومن السَّهل بعد هذا أن تتحكَّم الدولة في اتجاهاتهم, فإذا أرادت الدولة أن تنفذ أمرًا من الأمور مهَّدت له تلك الوسائل بعدة طرق رويدًا رويدًا, حتَّى يتمَّ لفت نظر الشعب لذلك, ثم يأخذ في متابعة الأمر حتى يتخيل الشعب أنهم هم أصحاب تلك الفكرة, وأن على الدولة أن تستجيب لهم وتحقق رغبتهم فقط, وقد لا يعلم إلّا النزر اليسير من الناس أنهم إنما يحققون رغبة أصحاب السلطة أو النفوذ, ولا يعلمون أن مصدر تلك الفكرة وذلك الهياج الشعبي إنما كان ممن بأيديهم الفكر والتوجيه، كما أن لوسائل الإعلام من الحيل والخداع ما لا يدركه الشخص العادي, فإنهم لا يأتون إلى ما