للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأكثر استفادة من التطور الجديد الطبقة العليا في المجتمع، ثم الطبقة الوسطى النامية حينئذ؛ لأن الثروة المتاحة وحجم الأسرة المحدود سمح لهم بما اعتُبِرَ "استثمارات" في التعليم من أجل المستقبل, ثم انتقل ذلك إلى الطبقات الأخرى مع شيوع التعليم الإلزامي والمجاني، إلّا أن هذا لم يحدث إلّا بعد ثمنٍ فادحٍ من تشغيل الأطفال والنساء في الأعمال الشاقة, والذي كان في ذاته أحد الثمار المرة للثورة الصناعية, وكان من نتائج ذلك الزيادة السريعة في عدد المدارس والكليات والجامعات، وسرعان ما أصبحت هذه المؤسسات أكثر تنظيمًا، كما ازدادت مطالبها وتعددت مستوياتها, وهكذا تهيأت الظروف طوال النصف الأول من القرن العشرين للتحديد الواضح لمرحلةٍ واضحةٍ في نموّ الإنسان, هي مرحلة المراهقة التي لم تَعُدْ محض نهاية للطفولة, وإنما أصبحت طليعةً لمرحلة أخرى إضافية, هي مرحلة الشباب, والذي تحددت معالمه خاصة منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين, فيما أطلق عليه "ثقافة الشباب"، ولو أن القرآن الكريم قد نبه منذ أربعة عشر قرنًا إلى ذلك فيما أسماه "بلوغ السعي" كما سوف نبين فيما بعد.

من العرض السابق يتبين أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحديثة أدت إلى ظهور جماعة المراهقة، ومع مزيدٍ من التعقد في ظروف المجتمع ظهرت جماعة الشباب، وهكذا ظهرت جماعتان تمثلان طورين "انتقاليين" في عمر الإنسان قبل تحوله الرشد, وهيأ ذلك كله الظروف للبحث حول الطبيعة السيكلولوجية لهاتين الفئتين العمريتين، وطرق توجيهما ووسائل التنبؤ بمستقبلهما. وكل هذه المسائل تغيرت مع مرور الزمن ومع تغير المجتمعات ذاتها، إلّا أن المهم أن نقول: إنه مع مطلع القرن العشرين بدأ "عصر المراهقة" بالمعنى الحديث للكلمة. أما الوعي الاجتماعي بمسألة الشباب فلم يظهر بشكلٍ جادٍّ إلّا بعد الحرب العالمية الثانية, ثم وصل إلى قمته في تمرد "صراع الأجيال" الذي شهدته الستينات, ثم ظهر منذ أواخر السبعينات اهتمام جديد سنتناوله بالتفصيل فيما بعد, وهو الاهتمام بالشيخوخة, وهكذا يمكننا القول أنه إذا كان القرن التاسع عشر هو "قرن الطفولة", فإن النصف الأول من القرن العشرين هو "عصر المراهقة"، وعقدي الستينات والسبعينات فيه هما "زمن الشباب". أما فترة أواخر هذا القرن فربما يسودها استشراف خصائص المرحلة الثالثة في نمو الإنسان، أي: شيخوخته.

وإذا كانت المراهقة تتحدد بدايتها بوضوح بالبلوغ الجنسي, فإن نهايتها التي تتحدد ببلوغ السعي, ثم الرشد أقل وضوحًا للأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أوضحناها, وقد نبَّه الفقه الإسلامي إلى هذه الحقيقة السيكلوجية

<<  <   >  >>