المجالات, وعنده أن كمية الإسهامات ذات المستوى الرفيع تتناقص مع التقدم في السن, ولعل هذا ما دفع أنستازي إلى القول بأن الثلاثينات هي "العصر الذهبي" للإنجاز الابتكاري.
وفي دراسة أخرى قام بها "Dennis, ١٩٦٦" لإنتاجية المبدعين، ويقصد بها عدد الإسهامات بصرف النظر عن كيفها لدى مجموعة من الذكور عاشوا حتى سن الثمانين، فوجد أن الفنانين مثل الموسيقيين والشعراء يصلو إلى قمة إنتاجهم قبل العلماء من مختلف التخصصات؛ فالعلماء والباحثون الذين يتطلب عملهم الإبداعي جمع البيانات وتحليلها وتقويمها, سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية, تستمر إنتاجيتهم إلى مرحلة وسط العمر وربما إلى مرحلة الشيخوخة.
والسؤال هو: ما هي العوامل التي ترتبط بتدهور الإبداعية لدى الفنانين مع التقدم في السن، وما هي تلك التي ترتبط بالإنتاجية اللاحقة لدى العلماء والباحثين؟
إن أحد التفسيرات المبكرة لهبوط الإبداعية هو النقص الواضح في النشاط العقلي المرتبط بالعمر "Bromley ١٩٥٦", وهذا بالطبع يستند إلى افتراض أن الإبداع والذكاء مرتبطان معًا، بل قد يكونا متطابقين, وكما رأينا فإن بعض البحوث الحديثة أظهرت أن الذكاء المتبلور، وهو المكوّن المعتمد على التعلُّم المستند إلى التراث الثقافي للشخص لا يتدهور مع العمر، بل إنه في الواقع قد يزيد عبر مدى الحياة.
وفي دراسة قام بها "Alpaugh&Birren, ١٩٧٧" حدد عاملين يرتبطان بتدهور الإسهام الإبداعي لدى المتقدمين في السن, هما التفكير التباعدي وتفضيل التعقد المعرفي, ويتضمن التفكير التباعدي القدرة على التفكير في أفكار جديدة مرتبطة بالموقف، والأصالة، والقدرة على تغيير وتحويل الأفكار من حالةٍ إلى أخرى. أما تفضيل تعقُّد الأفكار فقد ساوى بعض الباحثين بينه وبين الإبداع ذاته, وقد وجد الباحثان في دراسة لعينة مستعرضة تمتد أعمارها من ٢٠-٣٠ سنة، مع ضبط مستواها التعليمي، وجود هبوط منتظم في كل من المتغيرين مع زيادة العمر، بينما ظل ذكاء الأفراد ثابتًا، واستنتجا من ذلك أنه بالإضافة إلى الهبوط في عوامل مثل الطاقة والحيوية والنشاط، فإن التدور في الإنتاج الابتكاري عبر مدى الحياة يمكن تفسيره في ضوء النقص في التفكير التباعدي, وفي تفضيل التعقد, وليس في هبوط الذكاء ذاته.