مراحل العمر السابقة, والتي وصفناها من قبل طوال فصول هذا الكتاب تنتمي إلى فئة السواء السويّ؛ لأنها شائعة في كل مرحلة عمرية تناولناها، إلّا أن هذا المؤشر يتخذ اتجاهًا عكسيًّا في طور أرذل العمر، ففيه شيع أنماط السلوك المضطرب ومن ذلك الاكتئاب والعصاب القهري والقلق والأعراض السيكوسوماتية، إلّا أن هذا الشيوع والانتشار لا يجعل منها سلوكًا عاديًّا.
أما بالنسبة للمؤشر الإيتولوجي فمن الشائع في المراحل السابقة في نموِّ الإنسان أن يميز بين الاضطرابات الوظيفية والعضوية، فالخلل العضوي هو نمط من الاضطراب يعود في جوهره لأسباب في جسم الإنسان, أما الاضطراب الوظيفي فسببه الرئيسي هو التفسير الرمزي الذي يخلعه المرء على الأحداث, ولهذا يُعَدُّ من فئة الأمراض النفسية, إلّا أن هذا التمييز لا يكون بذلك الوضوح في طور أرذل العمر، فكثير من المشكلات السيكولوجية في هذا الطور ترجع إلى نوعي الأسباب معًا والتي تحدث متآنية, ومن ذلك مثلًا أن من الشائع عند المسنين الذين يعانون من خرف الشيخوخة senile dementia "وهو مرض عضوي", أن يقاسوا أيضًا من الاكتئاب الذي يسببه وعي المسن بالعجز المعرفي والتغير في كمياء المخ الذي يرجع إلى التغيرات الفسيولوجية التي تطرأ عليه.
وهذه الصعوبة في التمييز بين الاضطرابات العضوية والوظيفية في طور أرذل العلم تنتقل أيضًا إلى المؤشر الطبي الثالث وهو القابلية للعلاج، ففي مراحلة العمر السابقة، والتي يكون فيها هذا التمييز سهلًا يكون من الميسور تقديم العلاج المناسب حسب التشخيص إلى إحدى الفئتين. فعادة ما توضع الاضطرابات العضوية داخل النموذج الطبي حيث تعتبر الأعراض السيكولوجية أمراضا وتعالج بطرق التدخل في الجسم الإنساني باستخدام العقاقير أو الجراحة، ويتضمن ذلك افتراض أن الاضطرابات العضوية لا تقبل العلاج بطرق التدخل السيكولوجي بسبب طبيعتها الجسيمة، وعلى العكس من ذلك فإن الاضطرابات الوظيفية توضع في الأغلب في نطاق النموذج النفسي الاجتماعي، فما دامت الاضطرابات النفسية تنشأ عن علاقة المرء بالبيئة, ومن إدراكه لها, فإن الطرق العلاجية المناسبة لها حنيئذ هي الطرق السيكولوجية, سواء كانت فردية أو جماعية بالاستعانة بالبيئات المعاونة, وقد أشرنا إلى صعوبة التمييز بين ما هو وظيفي وما هو عوضي في طور أرذل العمر، ولهذا كان من الواجب الحرص البالغ في التشخيص لتحديد الدور الذي تقوم به العوامل النفسية الاجتماعية والعوامل البيولوجية في الاضطراب مع ملاحظة أن الشائع عند المسنين في هذا الطور هو تداخل