للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد شاعت عند فلاسفة المسلمين ابتداءً من الكندي فكرة أخرى تعود بأصولها إلى أرسطو أيضًا، وهي التمييز بين العقل الذي هو في نفس الإنسان بالقوة والعقل كعادة, وهو الذي في النفس بالفعل, وتستطيع استعماله, وهو التمييز الذي طوَّره فيما بعد ابن سينا, وشاع في علم النفس والحديث بين ما يمكن أن يسمى "الاستعداد" و"التحصيل" والذي يتصل اتصالًا وثيقًا بتنمية السلوك الإنساني. "فؤاد أبو حطب، ١٩٩٦". ويشير مؤرخ علم النفس الشهير برت brett, voi. ٢, ١٩٢١: ٥٧-٥٨. إلى إسهام ابن سينا خاصة في هذا المجال بقوله: إن الطفل يولد مثلًا مزودًا بالقدرة على الكتابة, ومع ذلك فهو لا يستطيع الكتابة، وبعد أن يتلقى نوعًا من التعلم يصبح قادرًا على الكتابة في صورة محاكاة أو تقليد، وأخيرًا يصل إلى المرحلة العليا حين يصبح قادرًا على الكتابة عن طريق الحثّ الداخلي الذي يحدثه عقله هو.

وفي هذا التطور تتمثل عملية النمو الإنساني والانتقال من محض الاستعداد إلى محض الفعل, والمرحلة الأخيرة هي مرحلة المعرفة الحدسية المباشرة، وهي أرقى صور المعرفة, وهو بهذا يضع الحدس في موضعه الصحيح كما عَبَّرَ عنه بعد ذلك عدد كبير من الفلاسفة المحدثين.

ويوجد مبدأ هام آخر، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو، وعَبَّر عنه بدقة الفارابي، وخلاصته أن النفس تترقى من المحسوس إلى المعقول بواسطة القوة المتخيلة، ويمثّل هذا المبدأ الوجهة الأساسية للنمو العقلي من الطفولة إلى المراهقة, كما سيتضح في الفصول التالية من هذا الكتاب.

وتتضح معالم اهتمام خاص بالنمو عند حجة الإسلام الغزالي, ويركز الغزالي خاصةً على دور التعلم الذي يسميه "الاعتياد" في النمو الإنساني, يقول في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين": وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملًا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية والغذاء، فكذلك النفس تخلق ناقصةً قابلةً للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم" عن خلف الجراد، ١٩٨٦: ٩٣" وتفيدنا كتابات الغزالي على وجه الخصوص في مجال النمو الخلقي والاجتماعي, وهو في كل كتاباته "التربوية" يركز على مفهوم "الصفحة البيضاء" للعقل، وهي الفكرة التي أشار إليها غيره من فلاسفة المسلمين، وسيطرت على الفكر الأوروبي فلسفيًّا وسيكولوجيًّا بعد ذلك, إلّا أنه لا ينكر أثر الاستعدادات الفطرية، ومهمة التربية تعديل هذه الاستعدادات وتنميتها, وهو يشبه الأمر هنا بالنواة التي ليست بتفاح ولا نخل، إلا أنها خلقت على نحوٍ يجعلها يمكن أن تتحول إلى نخلة إذا تعرضت للرعاية، ولكنها لا تحول أبدًا إلى تفاح مهما

<<  <   >  >>