ثم قال: فكيف لو توهمت من يملكها ومن زخرفها ومن قال لها: فكانت وتزيني فتزينت؟ والتشوق إلى مالكها أولى بقلوب المشتاقين، وأطيب لعيش المستأنسين.
ثم قال: قد أنسوا بربهم فالأمر فيما بينهم سليم، صافوه بالعقول، ودققوا له الفطن، فسقاهم من كأس حبه شربة فظلوا في عطشهم أروياء، وفي ربهم عطاشاً.
ثم قال: يا هذا أتفهم ما أقول وإلا فلا تتبعني؟ قلت: بلى رحمك الله إني أفهم جميع ما قلت. قال: الحمد لله الذي فهمك. قال: ورأيت في وجهه السرور ثم قال: خذ إليك نعم هم الذين لا يملون كاساته من تحفه، فالحكمة إلى قلوبهم سائلة متواصلة، لأنهم الأكياس الذين لم تدنسهم المطامع ولم تقطعهم عن الله عز وجل القواطع، ليوث في تعززهم، أغنياء في توكلهم، أقوياء في تقلبهم، قد قطعتهم الخشية وولهتهم الغربة، نعيمهم اليقين، وروحهم السكون، ألين الخلق عريكة وأشده حياء، وأشرفه مطلباً. لا يركنون إلى الدنيا جزعاً. ولا يتطاولون ولا يتماوتون، فهم صفوة الله عز وجل من خلقه، وضائن من خالص عباده. ثم قال لي أن القلوب الحية من دون هذا لها مقنع. نفعنا الله وإياك بما علمنا وسلمنا وإياك بما علمنا، السلام عليك ورحمة الله. قال بشر: فطلبت إليه فأبى علي وقال: لست أنساك فلا تنسني. ثم مضى وتركني. قال بشر: فلقيت عيسى بن يونس فحدثته بقصته فقال لي: لقد أنس بك ذلك الرجل الصالح، إنه رجل من خيار الناس يأوي في الجبل وإنما يدخل إلى المدينة في كل جمعة لصلاة الجمعة ويبيع في ذلك اليوم حطباً يكفيه إلى الجمعة الأخرى، وعجباً له كيف كلمك؟ لقد حفظت عنه كلاماً حسناً.
٨٨٨ - عابد آخر
ابن مسروق قال: سمعت سرياً يقول: بينا نحن نسير في بلاد الشام ملنا عن الطريق ناحية جبل عليه عابد، فقال رجل من القوم: إنا قد ملنا عن الطريق، وها هنا عابد فميلوا بنا إليه نسأله، لعل الله عز وجل يوفقه يكلمنا. فملنا إليه فوجدناه يبكي. قال سري: فقلت له ما أبكى العابد؟ قال: ما لي لا أبكي؟ وقد توعرت الطرق وقل السالكون فيها، وهجرت الأعمال وقل الراغبون فيها، وقل الحق ودرس هذا الأمر فلا أراه إلا في لسان كل بطال ينطق بالحكمة، ويفارق الأعمال، قد افترش الرخصة وتمهد التأويل، واعتل بزلل العاصين ثم صاح صيحة وقال: كيف سكنت قلوبهم إلى روح الدنيا، وانقطعت عن روح ملكوت السماء؟ ثم جعل