يقول: واغماه من فتنة العلماء، واكرباه من حيرة الأدلاء. وجال جولة ثم قال: أين الأبرار من العلماء؟ بل أين الأخيار من الزهاد؟ ثم بكى وقال: شغلهم والله ذكر طول الوقوف، وهم الجواب عن ذكر الجنة والنار والثواب. ثم قال: أنا أستغفر الله من شهوة الكلام. تنحوا عني. فخليناه يبكي وقد ملئنا منه غماً وهماً.
٨٨٩ - عابد آخر
محمد بن أحمد الشمشاطي قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا سائر بين جبال الشام إذا بشيخ على تلعة من الأرض قد تساقطت حاجباه على عينيه كبراً. فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام ثم جعل يقول: يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريباً، ويا من قصده الزاهدون فوجدوه حبيباً، ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه مجيباً ثم أنشأ يقول:
وله خصائص مصطفون لحبه ... اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقه ... فهم ودائع حكمة وبيان
٨٩٠ - عابد آخر
أبو عثمان سعيد بن الحكم قال: سمعت ذا النون يقول: بينا أنا أسير في بلاد الشام فإذا أنا بعابد قد خرج من بعض الكهوف فلما نظر إلي استتر بين تلك الأشجار. ثم قال: أعوذ بك سيدي ممن يشغلني عنك، يا حبيب التوابين، ومعين الصادقين، وغاية أمل المحبين، ثم صاح: واغماه من طول البكاء وطول الحزن واكرباه من طول المكث في الدنيا. ثم قال: سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه، فلا شيء ألذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته. ثم مضى وهو يقول: قدوس قدوس قدوس. فناديته: أيها العابد قف لي. فوقف وهو يقول: اقطع عن قلبي كل علاقة، واجعل شغله بك دون خلقك. فسلمت عليه ثم سألته أن يدعو الله لي فقال: خفف الله عليك مؤن نصب السير إليه، وأداك إلى رضاه حتى لا يكون بينك وبينه علاقة. ثم سعى بين يدي كالهارب من السبع.