للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: جيش من أجلي الجيوش وأنفق الأموال وأخرجني من دار الشرك وأدخلني في التوحيد، وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل هذا إلا لعناية، قلت: كيف حبك له؟ قالت: أعظم شيء وأجله، قلت: وتعرفين الحب؟ قالت: فإذا جهلت فأي شيء أعرف؟ إنه الحلو المجتنى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد خبلاً قاتلاً، أو فساداً معطلاً، وهو شجرة غرسها كريه ومجناها لذيذ. ثم ولت. وأنشأت تقول:

وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا ... له مقلة عبرى أضر بها البكا

وجسم نحيل من شجى لاعج الهوى ... فمن ذا يداوي المستهام من الضنا

ولا سيما والحب صعب مرامه ... إذا عطفت منه العواطف بالفنا

٩٧٨ - عابدة أخرى

الجنيد قال: حججت على الوحدة فجاورت بمكة، فكنت إذا جن الليل دخلت الطواف. فإذا أنا بجارية تطوف وتقول:

أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عنيد قد أناخ وطنبا

إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قرباً من حبيبي تقربا

ويبدو فأفنى ثم أحيا به له ... ويسعدني حتى ألذ وأطربا

قال: فقلت لها: يا جارية أما تتقين الله تعالى في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟ فالتفتت إلي وقالت: يا جنيد:

لولا التقى لم ترني ... أهجر طيب الوسن

إن التقى شردني ... كما ترى عن وطني

أفر من وجدي به ... فحبه هيمني

ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت: أطوف بالبيت. فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار. ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربة ... إليك وهم أقسى قلوباً من الصخر

وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم ... وخلوا محل القرب في باطن الفكر

فلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم ... وقامت صفات الود للحق بالذكر

قال الجنيد: فغشي علي من قولها. فلما أفقت لم أرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>