قال إبراهيمُ بنُ الجراحِ: مرض أبو يوسف فأتيتُه أعودُه، فوجدتُه مُغْمىً عليهِ، فلمَّا أفاق قال لي: ما تقولُ في مسألةٍ؟ قلتُ: في مثلِ هذه الحالِ؟! قال: لا بأس ندرسُ بذلك لعلَّه ينجو به ناجٍ.
ثم قال: يا إبراهيمُ، أيُّما أفضلُ في رمي الجمارِ: أن يرميها الرجلُ ماشياً أو راكباً؟ قلتُ: راكباً. قال: أخطأت. قلتُ: ماشياً. قال: أخطأت. قلتُ: أيُّهما أفضلُ؟ قال: ما كان يُوقفُ عندهُ فالأفضلُ أنْ يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يُوقفُ عنده، فالأفضلُ أن يرميه راكباً، ثم قمتُ من عندهِ فما بلغتُ باب دارِهِ حتى سمعتُ الصراخ عليه وإذا هو قدْ مات. رحمةُ الله عليه.
قال احدُ الكُتَّابِ المعاصرين: هكذا كانوا!! الموتُ جاثمٌ على رأسِ أحدِهِمْ بكُربِهِ وغُصَصِهِ، والحشرجةُ تشتدُّ في نفسِهِ وصدرِهِ، والأغماءُ والغشيانُ محيطٌ بهِ، فإذا صحا أو أفاق من غشيتِهِ لحظاتٍ، تساءل عنْ بعضِ مسائلِ العلمِ الفرعيَّةِ أو المندوبةِ، ليتعلَّمها أو ليعلِّمها، وهو في تلك الحالِ التي أخذ فيها الموتُ منه الأنفاس والتلابيب.
في موقفٍ نسي الحليمُ سدادهُ ... ويطيشُ فيه النابِهُ البيْطارُ
يا للهِ ما أغلى العلم على قلوبِهمْ!! وما أشغلَ خواطرهُمْ وعقولَهُمْ به!! حتى في ساعةِ النزعِ والموتِ، لم يتذكروا فيها زوجةً أو ولداً قريباً عزيزاً، وإنما تذكروا العلم!! فرحمةُ اللهِ تعالى عليهمْ. فبهذا صاروا أئمة في العلمِ والدِّينِ.