فهذا أبو الريحانِ البيرونيُّ (ت٤٤٠) ، مع الفسحةِ في التعميرِ فقدْ عاش ٧٨ سنةً مُكِبّاً على تحصيلِ العلومِ، مُنْصَبّاً إلى تصنيفِ الكتبِ، يفتحُ أبوابها ويحيطُ بشواكلِها وأقرابِها - يعنى: بغوامضِها وجليّاتِها - ولا يكادُ يفارقُ يده القلمُ، وعينه النظرُ، وقلبه الفكرُ، إلا فيما تمسُّ إليه الحاجةُ في المعاشِ منْ بُلْغة الطعامِ وعلقةِ الرياشِ، ثم هِجِّيراهُ - أي دَيْدَنُهُ - في سائرِ الأيامِ من السنةِ: علمٌ يُسفرُ عن وجههِ قناع الإشكالِ، ويحسرُ عن ذراعيْةِ أكمالُ الإغلاقِ.
حدَّث الفقيهُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ عيسى، قال: دخلتُ على أبي الريحانِ وهو يجودُ بِنفْسِهِ - أيْ وهو في نزْعِ الروحِ قارب الموتَ - قد حشرجتْ نفسُهُ، وضاق بها صدرُهُ، فقال لي في تلك الحالِ: كيف قلت لي يوماً حسابُ الجدَّاتِ الفاسدةِ؟ أيْ الميراثُ، وهي التي تكونُ من قِبل الأمِّ، فقلتُ له إشفاقاً عليه: أفي هذهِ الحالةِ؟ قال لي: يا هذا، أودِّعُ الدنيا وأنا عالمٌ بهذهِ المسألة، ألا يكون خيراً من أنْ أخلِّيها وأنا جاهلٌ بها؟! فأعدتُ ذلك عليهِ، وحفِظَ وعلَّمني ما وعد، وخرجتُ من عندِهِ فسمعتُ الصراخ!! إنها الهممُ التي تجتاحُ ركام المخاوفِ.