إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قطُّ، وأنا أعيشُ في الصحراءِ، بل هنالك في جنةِ اللهِ، وجدتُ السكينة والقناعة والرضا، وكثيرون من الناسِ يهزؤون بالجبريةِ التي يؤمن بها الأعرابُ، ويسخرون من امتثالِهِم للقضاءِ والقدرِ.
ولكن منْ يدري؟ فلعلَّ الأعراب أصابُوا كبِد الحقيقة، فإني إذ أعودُ بذاكرتي إلى الوراءِ.. وأستعرضُ حياتي، أرى جلياً أنها كانت تتشكَّلُ في فتراتٍ متباعدةٍ تبعاً لحوادث تطرأ عليها، ولم تكنْ قطُّ في الحُسبانِ أو مما أستطيعُ له دفعاً، والعربُ يطلقون على هذا اللون من الحوادث اسم:«قدَر» أو «قِسْمة» أو «قضاءُ اللهِ» ، وسمِّه أنت ما شئت.
وخلاصةُ القولِ: إنني بعد انقضاءِ سبعةَ عشر عاماً على مغادرتي الصحراء، ما زلتُ أتخذ موقف العربِ حيال قضاءِ اللهِ، فأقابلُ الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباعُ التي اكتسبتُها من العرب في تهدئِة أعصابي أكثر مما تفلحُ آلاف المسكِّناتِ والعقاقيرِ! ... اهـ.
أقولُ: إن أعراب الصحراءِ تلقَّنُوا هذا الحقَّ من مشكاةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وإن خلاصة رسالةِ المعصومِ هي إنقاذ الناسِ من التِّيهِ، وإخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ، ونفْضِ الترابِ عن رؤوسِهم، ووضعِ الآصارِ والأغلالِ عنهم. إنّ الوثيقة التي بُعِث بها رسولُ الهُدى - صلى الله عليه وسلم - فيها أسرارُ الهدوءِ والأمنِ، وبها معالمُ النجاةِ من الإخفاق، فهي اعترافٌ بالقضاء وعمل بالدليل، ووصول إلى غاية، وسعي إلى نجاة، وكدح بنتيجة. إن الرسالة الربانية جاءت لتحدد لك موقعك في الكون المأنوس، ليسكن خاطرك، ويطمئن قلبك، ويزول همك، ويزكو عملك، ويجمُل خلقك، لتكون العبد المثالي الذي عرف سرَّ وجوده، وأدرك القصد من نشأته.