ولقد نزل على السيد المسيح عليه السلام كتاب هو الإنجيل، وهو مصدق للتوراة، ومحيى لشريعتها، ومؤيد للصحيح من أحكامها، وهو مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو مشتمل على هدى ونور وهو عظة للمتقين، وإنه كان على أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل فيه، ولذلك قال الله تعالى:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
دعوة المسيح:
٤- ولقد كانت دعوة المسيح عليه السلام تقوم على أساس إنه لا توسط بين الخالق والمخلوق، ولا توسط بين العابد والمعبود، فالأخبار والرهبان لم تكن لهم الوساطة بين الله والناس، بل كل مسيحي يتصل بالله في عبادته بنفسه، من غير حاجة إلى توسط كاهن أو قسيس أو غيرهما، وليس شخص - مهما تكن منزلته أو قداسته أو تقواه - وسيطاً بين العبد والرب في عبادته، وتعرف أحكام شرعه مما أنزل الله على موسى من كتاب، وما أثر عنه من وصايا، وما اقترنت به بعثته من أقوال ومواعظ.
ودعوة عيسى عليه السلام - كما ورد في بعض الآثار، وكما تضافرت عليه أقوال المؤرخين - تقوم على الزهادة والأخذ من أسباب الحياة بأقل قسط يكفي لأن تقوم عليه الحياة، وكان يحث على الإيمان باليوم الآخر، واعتبار الحياة الآخرة الغاية السامية لبني الإنسان في الدنيا، إذ الدنيا ليست إلا طريقاً غايته الآخرة، وابتداء نهايته تلك الحياة الأبدية.
ولماذا كانت دعاية المسيح عليه السلام إلى الزهادة في الدنيا، والابتعاد عن أسباب النزاع والعكوف على الحياة الروحية؟ الجواب عن ذلك أن اليهود الذين جاء المسيح مبشراً بهذه الديانة بينهم كان من يغلب عليهم النزعات المادية، وكان منهم من يفهم أن الحياة الدنيا هي غاية بني الإنسان، بل أن التوراة التي بأيديهم اليوم خلت من ذكر اليوم الآخر، ونعيمه أو جحيمه، ومن فرقهم من كان يعتقد أن عقاب الله الذي أوعد به العاصين، وثوابه الذي وعد به المتقين، إنما زمانه في الدنيا لا في الآخرة، وقد قال رينان الفيلسوف الفرنسي في كتابه المسيح: "الفلسفة اليهودية كان من مقتضاها السلطة الفعلية في نفس هذا العالم، فإنه يؤخذ من أقوال