نعم لن الأريوسيين قد حاولوا بعد ذلك جذبه إلى رأيهم، وضمه إلى مذهبهم ليستفدوا منه قوة وسلطاناً، فمال إليهم أخيراً، أو أظهر الميل، وأن كان لم يعمل على نصرة مذهبهم، ولم يعقد مجمعاً ليقرر رأيهم، كما فعل بالنسبة لغيره، وأقصى ما عمله إنه رد المحرومين إلى حظيرة المسيحية، وأعاد المنفيين من منفاهم، ومكنهم من الاستمتاع بنعمة الحرية. ولعل ذلك كان كياسة منه وسياسة، إذ رآهم كثرة المسيحيين الغالبة. وأقوالهم هي الشائعة الرائحة، فأظهر الميل إليهم حتى لا ينقضوا عليه.
[أصحاب بولس الشمشاطي:]
٩٩- ومن الموحدين الذين أظهروا أصحاب بولس الشمشاطي، ويقول فيه ابن حزم:"كان بطريركا بأنطاكية، وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام، خلقه الله في بطن مريم من غير ذكر، وإنه إنسان لا إلهية فيه. وكان يقول: لا أدري ما الكلمة، ولا روح القدس.
ومن هذا يتبين أن مذهب بولس هذا كان توحيداً خالصاً، وأن عيسى ليس إلا رسولاً من رب العالمين، وإنه كان إذا عرض له البحث في كلمة الله، وروح القدس أمسك عن ذلك، ولم يخض فيه، وتوقف واعتصم بذلك.
ويقول ابن البطريق في بيان مذهب بولس هذا: " أن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون أن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة. ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية، وهم البوليقانيون".
هذا ما قاله ابن البطريق في معتقد بولس الشمشاطي، وهو لا يختلف في جوهره عن كلام ابن حزم الأندلسي فيه، وإن اختلفت العبارات، فالاصطفاء لتخليص الجوهر الإنسي هو ما عبر عنه ابن حزم بالرسالة،